أحداث 1988 وحراك 2019.. محطات سياسية أبرزت دور الجيش الجزائري
محللون وباحثون وعسكريون متقاعدون جزائريون يوضحون الفوارق بين أحداث أكتوبر 1988 وحراك فبراير 2019 ودور الجيش فيهما.
مرت، أمس السبت، 31 سنة على ذكرى أحداث 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 بالجزائر، والتي شهدت للمرة الأولى احتجاجات شعبية ضد سياسات الحزب الحاكم آنذاك وهو "جبهة التحرير الوطني" في عهد الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد (1979 – 1992).
- "العين الإخبارية" ترصد المراحل الانتقالية التي مرت بها الجزائر
- احتجاجات الجزائر.. من شرارة أكتوبر 1988 إلى حراك مارس 2019
وتتزامن الذكرى هذا العام، مع أضخم مظاهرات شعبية عرفتها البلاد أطاحت بنظام حكم عبدالعزيز بوتفليقة بعد 20 سنة من رئاسة الجزائر في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ هذا البلد العربي والأفريقي، اصطلح على تسميتها بـ"الحراك الشعبي" و"الثورة الشعبية" و"ثورة الابتسامة".
وقدم باحثون ومحللون سياسيون جزائريون لـ"العين الإخبارية" مقارنة بين أكبر أزمتين سياسيتين عاشتهما البلاد في تاريخها، تضمنت جملة من النقاط المشتركة، واختلافات جوهرية في خلفيات ونتائج كل واحدة منهما.
وأجمع المتابعون للشأن السياسي الجزائري، أن "ظاهر" أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 وحراك فبراير/شباط 2019، كان نتيجة "تراكمات الفشل السياسي والاقتصادي التي دفعت الجزائريين للانتفاضة على نظامي الشاذلي وبوتفليقة".
لكنها أخفت من ورائها صراعات على السلطة بين أجنحة النظام الجزائري في الأزمة الأولى، واختلفت القراءات في الثانية بين سعي جناح قوي في نظام بوتفليقة للاستفراد بالسلطة بعد سنوات من الفساد لم تشهد له البلاد مثيلا، وبين من ربطها بالصراع على "إبقاء النفوذ الفرنسي، وسط خشية باريس من تغير واجهة النظام الجزائري باتجاه لا يخدم مصالحها، مقابل مقاومة داخل هرم السلطة الجزائرية" لما تصفه بـ"تغول النفوذ الفرنسي".
وبين هذا وذاك، يجمع المراقبون، على أن حراك 22 فبراير/شباط "أنقذ الجزائر من انهيار كان وشيكاً"، وغيّر في قوانين اللعبة السياسية، عكس أحداث 5 أكتوبر 1988 التي كادت تعصف ببلد اسمه الجزائر.
أحداث 5 أكتوبر1988
في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث خرج آلاف الجزائريين في العاصمة ومدن أخرى إلى الشوارع منددين بتفشي الفساد والبطالة في البلاد ومحتجين على سياسات حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، وطالبوا بإصلاحات اقتصادية واجتماعية، وتحسين الظروف المعيشية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
سرعان ما تحولت المظاهرات إلى أعمال عنف، بعد تدخل الشرطة لقمع المحتجين، ما أدى إلى مقتل بين 160 و500 شخص بحسب الأرقام المتباينة التي قدمتها السلطات الجزائرية وشخصيات معارضة.
وفي المقابل، صب المحتجون جام غضبهم على كل ما يرمز لسياسات الحزب الحاكم، من مقراته الحزبية وما كان يعرف بـ"أسواق الفلاح" وعدد من المصانع الحكومية، فقاموا بإحراق بعضها وتحطيم أخرى.
خرج الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد بخطاب أعلن فيه إقرار إصلاحات سياسية واقتصادية توجها دستور 23 فبراير/شباط 1989 الذي أقر التعددية الإعلامية والسياسية في البلاد للمرة الأولى، منهياً بذلك 27 سنة من حكم الحزب الواحد الذي لم يكن له شريك في الساحة، ويتأسس معها أكثر من 60 حزباً يمثلون مختلف التوجهات السياسية، وانتهت معها قصة الحزب الواحد في الجزائر.
أحداث مدبرة وصراع بين جناحين
أحداث أو انتفاضة أرجع الباحث والمؤرخ الجزائري الدكتور محمد الأمين بلغيث أسبابها إلى "صراع بين جناحين في النظام الجزائري، وهما الجناح الذي يمثله ضباط عملوا في الجيش الفرنسي، وشخصيات محافظة في الحزب الحاكم، على رأسها أمين عام الحزب الحاكم شريف مساعدية".
وكشف بلغيث في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن "محمد العربي زبيري صديق مساعدية ذكر بأن أحداث 5 أكتوبر 1988 انتفاضة دبرها جناح في النظام لإبعاد مساعدية عن الحزب الحاكم كخطوة أولى، ثم تحرير التجارة الخارجية بضغط من جنرالات مقربين من فرنسا والتي عارضها مساعدية، بالإضافة إلى وقف الاستفتاء الذي كان سيجري للوحدة بين الجزائر وليبيا نهاية 1988، وضغطوا باتجاه تقريب الجزائر من محيطها الأورو متوسطي".
وأشار إلى أن "كل أهداف ذلك الجناح تحققت مباشرة بعد تهميش الشاذلي لأمين عام الحزب الحاكم، وإعلانه ما سمي بالإصلاحات السياسية، وهي الفترة نفسها التي شهدت صعود حزب فرنسا إلى السلطة (ضباط خدموا في الجيش الفرنسي والتحقوا بالجيش الجزائري)، ووجد الشاذلي نفسه محاطاً بهم".
ووصف المؤرخ والباحث محمد الأمين بلغيث التعددية السياسية التي جاء بها دستور 1989 بـ"تعددية الواجهة"، متوقعاً أن "تبدأ الجزائر مرحلة التعددية الحقيقية خلال هذه المرحلة، وستفرز انتخابات الرئاسة القادمة تيارات جديدة يقودها الجيل الجديد، وتزول من الساحة السياسية كثير من أحزاب السلطة والمعارضة بما فيها حزب جبهة التحرير الوطني".
كلام بلغيث عن الانفتاح السياسي سنوات التسعينيات يلتقي مع شهادات سياسيين جزائريين، أجمعوا على وصف بدايات العملية الديمقراطية في الجزائر بـ"المشوهة".
وبعد إجراء أول انتخابات محلية وتشريعية تعددية في البلاد سنتي 1990 و1991، برز تيار متطرف في خطاباته أو ما يعرف بـ"الإسلام السياسي" وهو "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي حولت مناصريها إلى "دروع بشرية للوصول إلى السلطة من خلال تهديد الجيش بحمل السلاح وإقامة دولة إسلامية تُلغى فيها الديمقراطية".
تطرف التيار الإخواني شكل ذريعة قوية لما يعرف بـ"ضباط فرنسا" لإحكام قبضتهم على الجزائر وفق تصريحات محللين سياسيين لـ"العين الإخبارية"، ووجد الجزائريون أنفسهم بين خيارين سيئين، فكانت النتيجة "عشرية سوداء" أدت إلى مقتل ربع مليون جزائري.
كما أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر الدكتور لزهر ماروك في تصريح لـ"العين الإخبارية" بأن "أحداث 5 أكتوبر 1988 تم طبخها من قبل جناح قوي في السلطة وتحديداً من قبل لوبي قوي داخل الرئاسة حرك الشارع لإسقاط الجناح المحافظ والمتشدد في جبهة التحرير الممثل في شريف مساعدية، وأعطى انطباعاً بأن الشارع يرغب في إصلاحات سياسية، وهو ما يؤكد بأن تلك الإصلاحات كانت جاهزة، والتعددية كانت وسيلة لذلك الجناح لتصفية حساباته مع الجناح المحافظ في الحزب الحاكم".
دوران متباينان للجيش
بلغيث قدم مقارنة بين الحدثين ودور الجيش الجزائري في كل أزمة، حيث ذكر بأنه "من سنة 1992 إلى 2019 أصبحنا أمام جيل جديد، وأشار إلى أن "غالبية من تسببوا في أزمة التسعينيات أنهى وجودهم الموت أو كبر سنهم، بينما تركيبة الجيش الحالية في قياداته ومكوناته تغيرت بالكامل".
وتابع قائلاً: "جيش 1992 هو جيش مسروق من جماعة فرنسا أو كما يسمون بحزب فرنسا، الذين فروا سنة 1956 من الثورة ووصلوا إلى السلطة الفعلية سنة 1990، ومن تبقى منهم هم الذين يقفون وراء شعارات دولة مدنية وليست عسكرية في المظاهرات".
في سياق متصل، رأى العقيد السابق في الجيش الجزائري عبدالعزيز مجاهد أنه "لا وجه للمقارنة بين أزمتي التسعينيات و2019، كما نفى "أن يكون الجيش وراء إلغاء المسار الانتخابي سنة 1992"، معتبراً أنها "معلومات مغلوطة يتم تداولها"، وأشار بأن "القرار صدر عن الشاذلي بن جديد، وتبعه بحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ".
ورغم ذلك، أشار في حديث مع "العين الإخبارية" إلى "أن مستوى الوعي في المجتمع الجزائري وفي المنظومة السياسية ارتقى بشكل ملحوظ في الأزمة الأخيرة مقارنة مع تداعيات أحداث 5 أكتوبر 1988، وبإمكاننا أيضا المقارنة بين مسيرات الجبهة الإسلامية للإنقاذ في التسعينيات والمظاهرات السلمية في 2019".
وعرج العقيد المتقاعد على الدور الحالي الذي يقوم به الجيش في الأزمة الحالية، حيث أكد على أنه "مرافق لمطالب الحراك الشعبي التي تحقق كثير منها، وهو الذي خرج لاستعادة سيادته، ولن يتحقق ذلك إلا عن طريق صناديق الاقتراع".
وبرأ "مجاهد" الجيش الجزائري من أي دور سابق في "صناعة الرؤساء"، مشيراً إلى أن "قوى أخرى داخل الجزائر وخارجها كانت تعمل على ذلك" دون أن يفضح عنها.
أما المحلل السياسي الدكتور سليمان أعراج فقد شدد على أن دور الجيش الجزائري حالياً مختلف عن دوره في التسعينيات، وأشار في تصريح لـ"العين الإخبارية" إلى أن "تدخله في الأزمة كان مدروساً ومحسوباً في مختلف التفاصيل، والتزم بأداء أدواره الدستورية بحيادية أكبر، ما مكنه من المساهمة الإيجابية في تحقيق مطالب الشعب وأصبح شريكاً في صناعة التغيير".
عِبر مستخلصة
المحلل السياسي الدكتور لزهر ماروك، أشار في تصريح لـ"العين الإخبارية" إلى أن "احتجاجات 5 أكتوبر 1988 لم يكن فيها شعارات سياسية، وكانت هناك مطالب اقتصادية واجتماعية، عكس الحراك الذي خرج في فبراير 2019 بمطالب سياسية مرتفعة السقف مثل إسقاط ولاية بوتفليقة الخامسة والدعوة لاستقالته ومحاسبة رموز نظامه وتغيير النظام".
وأضاف "أحداث أكتوبر لم تكن على نطاق واسع وحدثت في بعض الولايات، بينما خرج الشعب في كل المحافظات ضد نظام بوتفليقة والمطالبة ببناء جزائر جديدة".
ويرى الأكاديمي الجزائري بأنه "على عكس أحداث 1988 التي كانت بإيعاز من جناح قوي في النظام الجزائري، إلا أن حراك فبراير 2019 لم يكن كذلك، بل خرج بشكل عفوي بعد أن يئس الشعب من سياسة بوتفليقة وغيابه، واستشعر الشعب الخطر الداهم على البلاد".
ماروك قارن بين مخرجات أحداث 5 أكتوبر 1988 وحراك فبراير 2019، حيث ذكر بأن "التعددية السياسية لم تكن مطلباً للمحتجين في الأولى وإصلاحات 1989 كانت سريعة ومتسرعة في غياب الشروط الموضوعية لنجاح الديمقراطية وغياب الثقافة السياسية للمجتمع الذي لم يكن مهيئا للتعددية بعد 30 سنة من حكم الحزب الحاكم، ما أدى إلى فشل التجربة برمتها حتى كاد أن يهز أركان الدولة الجزائرية".
أما الآن –يضيف الأكاديمي– فإن "صانع القرار اليوم في الجزائر استفاد من تلك التجربة، ولا يريد التسرع في الخطوات حتى لا يؤدي ذلك إلى صدام آخر قد تكون نتائجه أخطر مما حدث في التسعينيات، ونلاحظ أن تلبية أجندة الحراك تأتي بشكل متدرج بحسب ما تقتضيه المرحلة وحافظ على المسار الدستوري بشكل يضمن أمن واستقرار البلاد، وانتخابات الرئاسة القادمة ستكون محطة مهمة لتجسيد كل طموحات الجزائريين".
بدوره، أشار أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر الدكتور سليمان أعراج في تصريح لـ"العين الإخبارية"، إلى أن "الظروف الحالية تختلف عن أحداث أكتوبر 1988، رغم وجود بعض النقاط المشتركة بينهما، إلا أن طريقة التعامل معها وطبيعة معالجتها كانت مختلفة، والتجارب التي مرت بها الجزائر جعلت مطالب المواطن الجزائري أكثر عقلانية وإدراكاً للرهانات والتحديات، وما قابله من طريقة استجابة النظام خاصة المؤسسة العسكرية كان فيه من العقلانية ما أتاح تحقيق الكثير من المزايا لصالح استقرار الجزائر ولصالح الإرادة الشعبية".
وأضاف أن "هناك دروساً كثيرة مستفادة من أحداث 1988، رأيناها في سلمية الحراك وطريقة التعامل مع المطالب الشعبية في التغيير السياسية بالفعالية والحكمة اللازمة، وهو ما يعد مؤشراً إضافياً لصالح استقرار الجزائر".
صدمة الإخوان
يرى كثير من المراقبين، أن الانتخابات التشريعية والمحلية التي جرت في تسعينيات القرن الماضي، شهدت ظاهرة غير مسبوقة، تمثلت في "التصويت العقابي ضد الحزب الحاكم آنذاك لصالح أي تيار آخر"، واستغل الإخوان في ذلك الوقت رفض الجزائريين لبقاء الحزب الحاكم عندما "دغدغ مشاعر الجزائريين بخطاب ديني" ظهر في الأخير أنه "متطرف" بحسب ما أظهرته الأحداث.
ومع بدء الحراك الشعبي في 22 فبراير/شباط، حاولت التيارات الإخوانية ركوب موجته كما أكد ذلك محللون سياسيون ومواطنون في تصريحات لـ"العين الإخبارية"، لكنها اصطدمت برفض المتظاهرين لأي دور لهم في حراكهم أو الحديث باسمهم.
وفسر الأكاديمي الجزائري ذلك بأن "مستوى الوعي والإدراك الشعبيين للتحديات وللفرص المتاحة أعاد كل الأحزاب السياسية إلى نقطة الصفر، وكشف عنها ذلك الغطاء الذي كانت تختفي من ورائه بما فيها التيارات الإخوانية، وهو ما جعل هامش مناوراتها ضعيفاً جداً ولا يؤثر لا في كيفية إدارة الأزمة ولا حتى على مستقبلها".