الحوار في المجتمعات البشرية عادة يتعلق بصناعة المستقبل، والتخطيط الجيد له، والسعي للعبور إلى حالة أفضل وأرقى من الحاضر ومن الماضي.
وذلك لأن جميع أطراف الحوار تحرص على أن يكون القادم أفضل، وأن تحقق أحلامها فيه، وألا تضيع مواردها، وجهودها في التنازع والصراع حول قضاياه.
لذلك فإن مفهوم الحوار المجتمعي أو الحوار السياسي مفهوم مستقبلي بطبيعته؛ يدور حول التخطيط للمستقبل في جميع المجالات، ولجميع فئات وطبقات المجتمع، وكذلك لجميع مناطق وأقاليم الدولة.
والحال هكذا فمن المتوقع أن تكون أفكار الحوار دائما خارج الصندوق، وأن يتحرر من الأفكار والممارسات الموجودة والمعهودة، وأن يأتي بأفكار جديدة وممارسات غير مسبوقة، لأنه من المؤكد أن الأفكار والممارسات الموجودة لم تحقق المطلوب منها، ولذلك كان الحوار الاجتماعي أو السياسي حاجة ملحة ومطلبا عاما.
صناعة المستقبل عملية مارستها العديد من الأمم والأوطان، ولها استراتيجيات متعارف عليها، وطرائق متفق عليها، أهمها الاستفادة من تجارب الدول التي سبقت؛ من خلال دراسة هذه التجارب دراسة عميقة، واستخلاص المسالك الناجحة التي سارت فيها، واختيار ما يتناسب مع طبيعة المجتمع الذي يريد العبور للمستقبل.
وذلك لأن التطور البشري - حسب ما يعتقد غالبية علماء الأنثربولوجيا أو علم الإنسان – تم من خلال عمليات الانتشار الثقافي، وليس التطور الذاتي.
فالمجتمعات تستفيد مما عند الآخرين أكثر من استفادتها من تطورها الداخلي النابع من ذاتها.
فمثلا الآلات والمخترعات من أبسطها إلى أكثرها تعقيدا وتطورا نشأت في مكان بعينه ثم انتشرت إلى باقي المجتمعات البشرية؛ بحيث نجد أن الفأس والسكين والمحراث جميعها موجود في كل بقاع الأرض، ولكن الأصل فيها أن مجتمعا بعينه قد ابتكرها ثم انتشرت. كذلك الكومبيوتر والتليفون والطائرة والسيارة …الخ
هذا يعلمنا أن التطور البشري يعتمد دائما على التعلم من الآخرين والاستفادة من تجاربهم، والأكثر نجاحا هو الأسرع تعلما، والأكثر متابعة، والأعمق تفكيرا في الاستفادة من الآخرين؛ بحيث لا ينقل ولا يستفيد إلا مما هو مفيد لمجتمعه، وما يحقق إضافات إيجابية، ويبتعد عما يحدث خللا أو تفكيكا لمجتمعه.
ولذلك فإن عملية الاستفادة تحتاج إلى عقول واسعة الاطلاع، عميقة التفكير، حكيمة القرار؛ لكي تستطيع الاطلاع على أفضل ما لدى العالم، وتختار منه الأنسب والأصلح لمجتمعها.
ولعل القضية الكبرى في صناعة المستقبل هي قضية الإدارة في كل المجالات والقطاعات، فالتنمية إدارة، والتقدم إدارة، والنجاح إدارة، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان هو عملية إدارة في الأساس.
فالإدارة هي التي توظف الموارد المتاحة، وتستخرج أفضل ما فيها، وتحقق الغاية من وجودها، سواء الموارد المادية أو الموارد البشرية، فهي رأس سنام التنمية والنهوض وصناعة الحضارة، وهي جوهر النجاح الفردي والمجتمعي، وهي الباب الأول للدخول الى المستقبل، ودون رؤية إدارية جديدة لن يستطيع أي مجتمع أن يحقق نجاحا في أي مجال، ومنذ قرن من الزمن قارن شاعر مصري بين حال وطنه وحال الأوطان الأوروبية فقال: وما فازوا بمعجزة علينا/ ولكن في أمورهم نظام.
والنظام هنا هو البراعة في الإدارة بحيث يكون كل شيء في نظام دقيق موجه لتحقيق أهداف واضحة المعالم، من خلال خطط استراتيجية مبرمجة على السنوات والشهور وحتى الأيام أحيانا.
والناظر في حال الدول التي حققت تنمية حقيقية، وانتقلت من عالم الدول المتخلفة، أو غير النامية إلى عالم الدول المتقدمة أو النامية يجد أن أهم عملية تقوم بها جميع المؤسسات العامة، والخاصة هي التخطيط الاستراتيجي، وأهم مكونات تدريب العاملين هو التدريب على التخطيط الاستراتيجي للمؤسسة التي يعملون فيها، وعلى تنفيذ الخطط الاستراتيجية في جداولها الزمنية.
ويكفي أن نذكر في هذا السياق موضوعين قد تجاوزهما العالم المتقدم والنامي بصورة كاملة شاملة، أولهما: بقاء الموظف في هيئة أو مؤسسة واحدة يترقى فيها منذ تخرجه في الجامعة حتى خروجه للتقاعد أو المعاش، هذا النمط لفظه العالم بصورة كاملة، وأصبح الموظف ينتقل من مكان إلى مكان آخر، ومن مؤسسة إلى أخرى، وهذا الانتقال يكون عادة للأفضل، والأعلى دخلا؛ وهذا يتطلب منه التعلم الدائم، والتدريب المستمر، وتطوير الذات واكتساب مهارات جديدة، أما أن يبقى الإنسان في مكان واحد آمن فيه، ومستريح فهذه وصفة عبقرية للجمود والتحجر وفقدان الكفاءة ثم الفساد.
ومن أكثر الملاحظات في هذا المجال أن المؤسسات العالمية صارت لا تقبل أن توظف شخصا ظل في وظيفة واحدة لفترة طويلة، لأنها تعتبره شخصا خاملا عديم الطموح.
وثانيهما أن الجامعات في مختلف الدول التي تحقق جامعاتها مواقع متقدمة في تصنيف الجامعات العالمية قد أصبحت لا تعين عمداء الكليات من خريجي نفس الكلية، أو من الذين عملوا فيها لفترات طويلة، وكذلك لا تعين رؤساء الجامعات من العاملين في نفس الجامعة، وتحرص على أن تأتي بخبرات جديدة من كليات أخرى في نفس التخصص، أو رؤساء جامعات من جامعات أخرى من الذين حققوا إنجازات متميزة.
وبهذا يتم التجديد المستمر والترقي الدائم، ومن خلال هذا يكون المستقبل أفضل من الحاضر، وعليه فإن الحوار حول المستقبل يحتاج أن تتم الاستفادة من التجارب الناجحة في جميع المجالات، وهذان المثالان ليسا إلا نموذجا لعدد غير محدود من النماذج التي ينبغي أن يستفيد منها من أراد أن يصنع مستقبلا أفضل من حاضره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة