عامان منذ بدء عملية "الفارس الشهم 3"، تحولت الإمارات خلالها من مانحٍ إلى ناظمٍ إنساني يربط بين الإغاثة العاجلة والهندسة الهادئة للاستقرار.
الفكرة بسيطة وعميقة: إنقاذ الأرواح اليوم وتهيئة شروط السلام غداً. لا يمكن حصر التجربة الإماراتية في وصفٍ إنشائي، بل هي حصيلة تجارب ملهمة تؤكدها لغة الأرقام.
على المستوى الميداني، قدّمت الإمارات لغزة ما يقارب 2.57 مليار دولار، أي نحو 46% من إجمالي المساعدات العالمية. تمّ إيصال أكثر من 100 ألف طن من المواد الغذائية والطبية والمياه عبر البر والبحر والإنزال الجوي. ولأن إنقاذ الحياة يبدأ من الطبابة، جرى إنشاء مستشفى ميداني داخل غزة بسعة 200 سرير قدّم الرعاية لأكثر من 53 ألف حالة، ومستشفى عائم بسعة 100 سرير استقبل أكثر من 20 ألف حالة. وإدراكاً لاحتياجات العلاج المتخصص، استقبلت الإمارات 1000 طفل و1000 مريض سرطان وذويهم للعلاج داخل الدولة.
الماء غذاء الحياة قبل الغذاء نفسه؛ لذا أنشأت الإمارات محطة تحلية بطاقة مليوني غالون يومياً يستفيد منها أكثر من مليون شخص، فيما دعمت 75 مطبخاً شعبياً و42 مخبزاً لضمان وفرة الطعام. وفي ذروة الانقطاعات وإغلاق المعابر، نفذت مبادرة "طيور الخير" 81 عملية إنزال جوي بإجمالي 4076 طناً من المساعدات. هذه "السلاسل الإنسانية" ليست أرقاماً معزولة، بل شبكة متكاملة صُممت لتحييد المخاطر التشغيلية وتأمين الوصول الأكثر أمناً للمحتاجين.
وراء هذا الجهد اللوجستي تتبدّى فلسفة سياسية واضحة؛ فالعمل الإنساني ليس بديلاً عن السياسة، لكنه يخلق هامشاً ضرورياً لولادة السياسة. لهذا تربط الإمارات المساعدات الكبيرة بوضوحٍ سياسي حول الوجهة. الوصفة الإماراتية تبدأ من وقف إطلاق نارٍ مستدام، ونزع سلاح الجماعات المسلحة، وإصلاحٍ جادّ لمؤسسات الإدارة الفلسطينية بما يضمن حياةً سياسية قابلة للاستمرار. بكلمات أخرى: لا إعمار بلا أمن، ولا أمن بلا مؤسسات، ولا مؤسسات بلا أفقٍ نهائي عنوانه دولة فلسطينية قابلة للحياة.
طوال عامين من الحرب، أثبت الواقع أن الخيار العسكري وحده لا يصنع سلاماً. لذلك حافظت الإمارات على قنوات عملٍ مفتوحة، وإسنادٍ إنساني كثيف، مع ضغطٍ سياسي أخلاقي وواقعي لصون “الخطوط الحمراء” التي تحمي إمكانية التسوية؛ من رفض الضم إلى التشديد على أن أمن إسرائيل لا يستقيم دون منح الفلسطينيين حقهم في دولةٍ تضمن الكرامة والأمن والازدهار.
يقال إن الدعاية تهزم الحقائق، لكن تجربة “الفارس الشهم 3” أثبتت العكس تماماً؛ فكلما ارتفع ضجيج المزايدات على المنصّات، كانت سلاسل الإمداد الإماراتية تعمل بصمتٍ وفاعلية على الأرض. لا تحتاج الإمارات إلى مطاردة الشائعات، يكفيها أن تُري العالم أثرها العملي: أسرّةٌ تشغلها حياةٌ أُنقِذت، مخابزُ تعجن الخبز كل صباح، صهاريجُ ماءٍ تُطفئ عطش الأطفال، وممراتٌ إنسانية تظل مفتوحة حين تغلق الحسابات الأيديولوجية كل الأبواب.
ولأن السياسة منظومةٌ لا ملفاً واحداً، يظهر الاتساق ذاته في مقاربة الإمارات لأزماتٍ موازية في المنطقة، في السودان واليمن وغيرها، ما يمنح الدور الإماراتي الموثوقية؛ ليس صخباً موسمياً، بل نهج دولة ذات مصداقية واسعة اكتسبتها بالأفعال الصادقة في أوقات الشدة.
المنتقدون من الجماعات الأيديولوجية وداعموهم يختزلون التطبيع أو الانخراط الإقليمي في "تنازلٍ سياسي"، لكن الوقائع تقول غير ذلك. فالتطبيع حين يُستخدم رافعةً لضبط السلوك المتطرف ووضع حدودٍ واضحة أمام الإجراءات الأحادية ودفع مسار الدولتين، فهو أداة تأثير لا ورقة تبرير. وقد نجحت الإمارات في توظيف علاقاتها لتوسيع نافذة الوصول الإنساني ولحماية فرص السلام، ومن منطق الخروج بحلولٍ مستدامة تمنع حدوث جولاتٍ جديدة من العنف مستقبلاً.
في الذكرى الثانية لـ"الفارس الشهم 3"، السؤال ليس: ماذا قالت الإمارات؟ بل ماذا فعلت؟ فعلت ما تفعله الدول التي تفهم معنى المسؤولية: أن تُسعف اليوم لتمنع موتاً كان مؤكداً، وأن تُصمم للغد مساراً يقلّل اليقين بالعنف ويزيد فرص الاستقرار. من ملايين الغالونات التي تُضخ كل يوم، إلى آلاف الأسرّة والوجبات والعمليات الجراحية، إلى المليارات التي صارت بنيةً إنسانيةً دائمة، هذا هو المعنى الحقيقي لقيادةٍ إنسانية ترى الإنسان أولاً، وتعرف أن السلام في النهاية لا يُعلَن بل يُبنى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة