الدعم الأوروبي الذي حظيت به خطواتُ باريس في لبنان وفي شرق المتوسط من عواصم أوروبية عدة يحمل في طياته كثيراً من الدلالات.
شكّل الحضور الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط مؤخراً، دبلوماسياً وعسكرياً، مادةً مثيرة للاهتمام، وأنعش الأذهان لجهة البحث والتحليل عن دوافعه ومراميه ومقوماته وحظوظه بعد غياب مدوٍّ لباريس تحديداً، وأوروبا عموماً، خلال العقدين الأخيرين من الزمن عن مجريات الأحداث وتطوراتها في المنطقة، ومخاضاتها العسيرة التي وفّرت نافذةَ عبور لبعض القوى الإقليمية والدولية للاستحواذ على بعض المواقع داخل هذا البلد أو ذاك، وتثبيت حضورها عبر الاحتلال، وتشكيل مناطق نفوذ على حساب سيادة واستقلال بعض الدول، وراحت تلك القوى المتسللة تناكف الآخرين في المنطقة وتهدد مصالحهم ومن بينها فرنسا ومعها الدول الأوروبية ذات المصالح المشتركة معها .
ظلت فرنسا وأوروبا أقرب إلى المراقب منه إلى اللاعب الفاعل والفعّال في أحداث المنطقة على مدار نصف قرن تقريبا خلال فترة الثنائية القطبية الدولية ممثلة بالاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، وربما يمكن فهمُ وتفسير جوهر تلك السياسة الأوروبية حينها بالحاجة إلى الحماية الأمريكية من الخطر الشيوعي الداهم . بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين لم تتمكن القارة الأوروبية، التي باتت توصف بالقارة العجوز، من ملء الفراغ الذي خلّفه انهيارُ الاتحاد السوفييتي رغم إمكاناتها الاقتصادية الهائلة وتنوعها وتاريخها الضارب الجذور في القدم والتقدم؛ بل اختارت التماهي مع السياسة الأمريكية واستمرار القبول بالبقاء تحت هيمنتها سواء في حلف شمال الأطلسي أو في السياسة الخارجية الأطلسية التي غالبا ما ترسمها دوائرُ القرار في واشنطن، وحتى الحروب المحدودة التي شهدتها بعض دول أوروبا الشرقية، يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، عقب هزة انهيار المعسكر الاشتراكي في تسعينيات القرن المنصرم، لم تستثمرها وتحولها إلى فرصة استراتيجية لكيانها السياسي والعسكري والاقتصادي الموحد، بحيث تصبح رافعةً لاستقلال سياستها وقراراتها ومواقفها وتأثيرها في المشهدين الإقليمي والدولي .
من بيروت إلى أثينا وعطفا على بغداد؛ ترخي باريسُ اليومَ ظلالَ سياستها المباشرة والصريحة بحواملها السياسية والعسكرية على المشهد الإقليمي، ضمن رؤية استراتيجية ملموسة عبّرت عنها بالانخراط الفعلي والعملي في شأن لبناني معقد من خلال خارطة طريق رسمها الرئيسُ الفرنسي ودوائرُه السياسية لتشكيل حكومة لبنانية تُخرج البلاد والعباد من عنق الزجاجة، فكانت بمنزلة رسائل فرنسية باتجاه الداخل اللبناني والقوى الخارجية التي أمعنت في تعطيل حركة النهوض فيه على مدار عقود من الزمن لصالح فئة بعينها ممثلة بحزب الله وحاضنته الإيرانية من جهة، وجرس إنذار فرنسي بأن باريس ماضيةٌ في نهجها الضاغط لاستعادة دورها وتأثيرها في ملفات المنطقة تبعا لأولويات مصالحها . من أهم ما أفرزته الدبلوماسية الفرنسية في لبنان وفي شرق المتوسط هو الإيذان بعودة الروح الفرنسية إلى دورها الفاعل وعدم البقاء على الحياد أو الاكتفاء بدور المراقب واقتصار حضورها على الجانب الإنساني . الدعم الأوروبي الذي حظيت به خطواتُ باريس في لبنان وفي شرق المتوسط من عواصم أوروبية عدة يحمل في طياته كثيراً من الدلالات أبرزها أن أوروبا تحركت بعد أن استشعرت خطراً داهما يهدد مصالحها في المنطقة من جهة، ويلامس حدودَ تهديد وجودها برمته كما هو حاصل اليوم بشأن الصراع على الطاقة في المتوسط وتنامي النزعة التوسعية لأردوغان من جهة أخرى، وبدا للأوروبيين أن مقولة "الهجوم خير وسيلة للدفاع" هي الأبلغ للتعبير عن مكامن القوة لديها وحماية مصالحها وفرض حضورها على مجمل الوضع الإقليمي والدولي .
لا تخلو التحركاتُ الفرنسية في البؤر الساخنة في المنطقة من رسائل بوجهين؛ الأول تجاه بعض دول الإقليم، كتركيا وإيران، وما تتضمنه من تحذيرات تفصح عن عدم السماح لهما، أو لكل منهما على حدا، بالاستفراد في حاضر المنطقة وتشكيل مستقبلها وفقا لمصالحمها أو لمصالح كل منهما على حساب مصالح الآخرين، أوعدم مراعاة مصالح اللاعبين الكبار فيها، والوجه الآخر للرسائل الفرنسية موجهٌ لأوروبا بتلخيص مكثف يقول إن الإرادة السياسية المشتركة للأوروبيين يمكن أن تكون نقطة انطلاق لتحقيق هدفين؛ الأول عودةُ الحضور الأوروبي وتأثيرُه الفعال في مجريات السياسة في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وحماية مصالحهم ومصالح شركائهم المحليين، والثاني طمأنةُ حلفائهم في المنطقة بأن الدور الأوروبي لا يمكن إلغاؤه أو تجاوزه من قبل أي جهة إقليمية مهما عظم شأنها وتحت أي مسمى، ما يجعل إمكانية البناء على المصالح المشتركة بينهما متاحة لفائدة الطرفين .
الفرص الاستراتيجية في الإقليم تتعدد بالتوازي مع التحولات الكبيرة التي يشهدها، ومنها فرصة تشكيل تحالفات إقليمية دولية تكون إطاراً لعمل سياسي ودبلوماسي مشترك مستند إلى تفاهمات واتفاقات تعزز القدرات الدفاعية لجميع الأطراف، وتكون قادرة على مواجهة تحديات تفرضها أطماع أردوغان وطهران، خاصة بعد افتضاح دوافع تركيا وإيران ومشاريعهما التوسعية العدوانية الهادفة إلى السيطرة على المنطقة وثرواتها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة