في أم القرى مكة المكرمة اجتمع أكثر من 1200 من المفكرين، والمفتين، ووزراء الأوقاف، والدعاة من 127دولة
في أم القرى مكة المكرمة اجتمع أكثر من 1200 من المفكرين، والمفتين، ووزراء الأوقاف، والدعاة من 127دولة، من جميع قارات الأرض، في مؤتمر عقدته رابطة العالم الإسلامي تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، وبحضور القيادات الدينية في المملكة العربية السعودية.
ناقش هذا المؤتمر العالمي للوحدة الإسلامية مخاطر التصنيف والإقصاء من أجل تعزيز مفاهيم الدولة الوطنية، وفي نهاية المناقشات جاء البيان ليعلن إجماع الأمة؛ من خلال علمائها ومفكريها ومسؤوليها عن نهاية مرحلة اختطاف الإسلام من قبل الجماعات التي شوهت صورته السمحاء، واستخدمت دينها وسيلة لتحقيق مصالحها، وسلاحا تخوض به معاركها، ودرعاً تحمي به مطامع قياداتها.
إن المسلمين يجب أن يعيشوا إسلامهم اليوم بنفس نقائه، وطهره، وصفائه، وتسامحه، وسكينته، وروحانيته الراقية النقية، ويتركوا الماضي والتاريخ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت، لسنا مسؤولين عن أفعالها
جاء البيان الختامي ليعلن عودة الإسلام إلى مهده، واسترداد الدين الحنيف النقي الصافي من المذاهب والطوائف والأحزاب، واستعادة الإسلام دين السلام والسكينة والتسامح، وإزالة كل رواسب التعصب والتحزب والتمذهب والتوظيف، أجمع الحاضرون على مبادئ كبرى تؤسس لعصر جديد، ومرحلة جديدة يجب أن تتم قراءتها في دلالات زمانها ومكانها وإنسانها؛ لندرك مآلاتها ومراميها ونتائجها المستقبلية. اشتمل البيان على الأفكار والمعاني الآتية:
أولا: دعوة المسلمين إلى تجاوز كل التصنيفات والمسميات المذهبية والطائفية والحزبية؛ والعودة إلى التمسك بالاسم الشريف الذي سماهم الله به "هو سماكم المسلمين من قبل" الحج: 78، بما يؤدي إلى إعلاء الوحدة الروحية والإيمانية بين جميع المسلمين، ويتجاوز كل السلبيات التاريخية التي رسختها العقلية الطائفية والحزبية والمذهبية، والتي أدت إلى استدامة الصراع والتوتر والنزاع بين المسلمين لغير مصلحة وبدون هدف حقيقي.
ثانياً: نشر ثقافة الأخوة بين المسلمين؛ بما يقود إلى الاحترام في التعامل، وحسن الظن، والتماس العذر، وتقدير التعدد والتنوع والاختلاف، ويحول دون الانجرار وراء التعصب والمذهبية، ودعوات التفريق والصدام والصراع، ومن أهم مظاهر ثقافة الإخوة بين المسلمين احترام الاختلاف، وعدم تحويله إلى خلاف، وتمكين جميع المكونات الدينية والمذهبية والثقافية من المسلمين وغيرهم؛ من أن تمارس شعائرها الدينية بطريقتها؛ وبحرية واحترام لخصوصيتها، وعدم التهجم على المختلفين مذهبيا أو طائفيا أو دينيا، ورفض كل أنواع السجالات العقيمة بين المذاهب والطوائف مهما تكن ذرائعها ودوافعها؛ لأنها تقود إلى الغلو والفتنة وتدفع للصراع والتمزق والتشتت.
ثالثاً: إيقاف الفتاوى الشاذة التي تكفر وتبدع وتفسق المخالفين، وتنظيم عملية الفتوى ذاتها، بحيث تحال الأمور الجوهرية إلى أهل الاختصاص العلمي، مع التأكيد على احترام النطاق الإقليمي للفتاوى، والتوقف عن تصدير الفتاوى خارج نطاقها المكاني، فلكل بلد أو منطقة أو جهة أحوالها، وأعرافها وثقافتها الخاصة، وما يصلح لبلد معين قد لا يصلح لآخر، والدعوة لأن يكون لكل بلد مرجعية علمية قائمة بذاتها، والتشديد على عدم تدخل أي مرجعية علمية في بلد معين في شؤون بلد آخر؛ انطلاقا من ضرورة احترام الدول الوطنية بصفتها وحدات أساسية تتكون منها الأمة المسلمة، فأمة المسلمين تتكون من دول وطنية يجب احترامها، وعدم المساس بخصوصيتها؛ لأن ذلك هو الطريق الأمثل لتحقيق وحدة المسلمين، وضمان الاستقرار والأمن في مجتمعاتهم.
رابعاً: دعوة مؤسسات التعليم الجامعي، وقبل الجامعي إلى أن تعمل على ترسيخ قيم التسامح والاحترام والوحدة والتضامن؛ من خلال الحفاوة بتعدد المدارس الإسلامية وتنوعها، وتقديمها للمتعلمين ليتعرفوا عليها ويحترموا أتباعها، وهذا بدوره يمثل خطوة أولى في ترسيخ قيمة قبول واحترام التعدد والتنوع عند الشباب، وتدريبهم على النظر إلى هذا التنوع الفكري والفقهي بوصفة معبراً عن ثراء الثقافة الإسلامية، وسعتها، وتنوع تجاربها، وتعدد إسهاماتها، ومن ثم يتعلمون التعامل مع المختلفين عنهم، ويتدربون على العيش المشترك في عالم أهم ملامحه التنوع الثقافي والديني والفكري.
خامساً: دعوة المجتمعات المسلمة في أوروبا والأمريكتين وأستراليا ودول آسيا وأفريقيا ذات الأغلبية من غير المسلمين إلى الاندماج الإيجابي في أوطانهم، والانتماء لدولهم الوطنية مع المحافظة على خصوصياتهم الثقافية والدينية، وأن يكون تعاملهم مع دولهم وفيها طبقا لقوانين تلك الدول، وأن تكون مطالبهم متوافقة مع نظم دولهم ودساتيرها وقوانينها، وألا ينقلوا صراعات الدول الإسلامية إلى مجتمعاتهم الجديدة، وأن يعملوا على ترسيخ ثقافة إسلامية جديدة تحافظ على ثوابت دينهم وتراعي خصوصيات مجتمعاتهم، وأن يكونوا مستقلين في فكرهم وفقههم عن كل الكيانات الموجودة خارج أوطانهم.
سادساً: دعوة المفكرين والدعاة والفقهاء والمفتين إلى ترسيخ ثقافة التمييز بين الثوابت والمتغيرات، وتثقيف المسلمين بأهمية التمسك بالثوابت والتسامح في المتغيرات، لأنه – على حد تعبير معالي الدكتور علي النعيمي في كلمته الختامية للمؤتمر – "إن التمسك بالمتغيرات ومعاملتها بنفس الأهمية مع الثوابت سيؤدي حتما إلى ضياع الثوابت الدينية ذاتها، ومن ثم ضياع الدين".
تلك هي أهم الأفكار التي وردت في البيان الختامي لمؤتمر مكة المكرمة، والتي تمثل عودة حقيقية للإسلام البعيد عن التحزب والتعصب والطائفية والمذهبية، وتمثل بداية لعصر جديد للمسلمين يتركون فيه خلفهم كل مشاكل التاريخ، وصراعاته، وجروحه ومآسيه، وينطلقون إلى المستقبل بنفس منهج العلامة والفيلسوف الهندي محمد إقبال المتوفى 1938 م، والذي قال "إن أبي كان دائما يقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنما عليك أُنزل". هذا ما يحتاجه المسلمون في عالم اليوم، وهذا ما دعا إليه بيان مكة المكرمة. إن المسلمين يجب أن يعيشوا إسلامهم اليوم بنفس نقائه، وطهره، وصفائه، وتسامحه، وسكينته، وروحانيته الراقية النقية، ويتركوا الماضي والتاريخ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت، لسنا مسؤولين عن أفعالها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة