رواية "مزاج حر".. جولة محمد الفخراني في الحياة
الكتابة لا تحتاج غير شغف وقلم وورقة، كما أن القراءة لا تحتاج غير شغف وكتاب، هكذا تخبرنا رواية "مزاج حر" للروائي محمد الفخراني.
صدر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية رواية "مزاج حر" التي تدور حول كاتب يجوب العالم على قدميه دون ماء أو طعام أو مال، فقط حقيبة صغيرة من قماش معلقة بكتفيه بها أوراق وأقلام وقطع قليلة من الملابس.. يبدأ الكاتب جولته من محطة قطار مجهولة ومنها ينفتح أمامه العالم بمفاجآته.
يتنقَّل الكاتب في تجواله عَبْرَ الزمان والمكان، ويصير كل شيء ممكنًا، يصادف شخصيات لها ألعابها وإيقاعها الخاص: متشرِّدين، مُهرِّجين، ملائكة، وشياطين، "البنت السمكة"، "شهرزاد"، البائع المتجوِّل، وغيرها، ربما كل هذه الشخصيات هم أيضًا متجولون في العالم على طريقتهم، ليقضي بعض الوقت مع كل شخصية لتبادل الحوارات، ويعيش مواقف تكشف له أكثر روح العالم وتمنحه الفرصة لملامستها والمرور خلالها، وكأن العالم يمر من خلال روحه.
استعان الروائي بتقنية الأصوات المتعددة وقدم للقارئ لغة حُرَّة متجوِّلة وجملا قصيرة رشيقة تليق بحالة التجوال الحُرّ، بها من الحساسية ما يجعلها تمرُّ داخل روح العالم دون أن تخدشها.
تستهل الرواية بمقطع: "أرقص مع دهشتي، شغفي، وأحلامي"، هي أيضًا رقصة مع العالم، وتجوال حُرّ داخل روحه". يقول "البائع المتجوِّل": "أروع الأشياء في العالم مجانيَّة، والحب ليس إلا لحظة استثنائية من الدهشة".
لا يبحث الكاتب خلال تجواله عن أحداثٍ كبيرة، إنما يريد التعرف على المزيد من أسئلة العالم، وأن يُقدِّم بدوره أسئلته الخاصة، ليس المهم الحصول على إجابة، هو يبحث عن تلك النغمة التي تجمع مفردات العالم معًا، وفي الوقت نفسه يبحث عن التفرُّد الكامل، وخصوصية كل مُفرَدَة.
يقول "المتشرد": "الروح أرقُّ من النور، أعلى من الطيران، وهناك دائمًا سرُّ أعلى، ووصولٌ أعلى، لا تتوقف". في كل مقابلة للكاتب المتجوِّل مع إحدى شخصيات الرواية ستتمنى له الشخصية أمنية ما، وبدوره سيتمنى لها، وخلال تجواله تتحقَّق أمنياتهم له، وكلها أشياء جعلته أقرب إلى روح العالم ومنحته فرصًا عديدة للدهشة، كأنما كانت هناك خطة من البداية أن يقوم بتجواله.
تنطلق الرواية في دفقة سرديَّة واحدة تتناغم مع حالة التجوال الحُرّ وبانتقالات سلسة بين أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا تترابط الرواية فيما بينها بخط سردي تصاعدي، إنما تترابط بالتفاصيل التي تتناثر داخلها لتُشكِّل حالة من التناغم.
هناك أيضًا بعض شخصيات تعاود الظهور بخِفَّة في أجزاء من الرواية، وسنرى "عباس بن فرناس" الذي يقابله الكاتب في بداية تجواله أثناء محاولته الأولى للطيران. هنا، داخل الرواية، نراه يظهر مُحلَّقًا من وقت لآخر، ثم يقترب من الكاتب الذي يرفع يده ليلمس ريش جناحه، ويقول له: "طر يا ابن فرناس"، قبل أن يعاود الأخير التحليق في السماء، هناك تلك الجملة التي يصادفها الكاتب في كل مكان وزمان ينتقل إليهما، ويراها مكتوبة على جدار أو شجرة أو قطعة من الخشب طافية فوق نهر، وفيها يكتب شخص ما اسمه بجوار مَنْ يحب.
يقول الملاك داخل الرواية: "عقل الإنسان أكثر مكان يتِّسع للسير فيه، لا نهاية له". في جزء من الرواية يقابل الكاتب 3 شخصيات كتبها في روايته السابقة، يجلس معهم في مقهى، ويكتشف أنهم يعرفون عنه أكثر مما يعرف عنهم، ومن خلال ذلك تطرح أسئلة حول علاقة الكاتب بكتابته، وإنْ كان يخترع شخصياته بالفعل، وكيف تكون لتلك الشخصيات حياة ومعرفة وأفكار عن الكاتب الذي كتبها بنفسها في نصً أدبي.
تتحدث الرواية عن الكتابة والقراءة، وتؤكد أن الكتابة لا تحتاج غير شغف وقلم وورقة أو شيء يمكن استعماله في الكتابة، كما أن القراءة لا تحتاج غير شغف وكتاب، وأن البحث عن كتابٍ ما، وقراءة عناوين أخرى قبل العثور على العنوان المطلوب، هو قراءة في حدّ ذاتها، ومتعة إضافية.
يقول الشيطان داخل الرواية: "الغرور تافه، مُضحِك، ومثير للشفقة أحيانًا". تتساءل "شهرزاد" عن نفسها داخل الرواية: هل ظهَرَتْ قبل كتاب "ألف ليلة وليلة"، أم ظهر الكتاب قبلها، هل حَكَتْ هي الحكايات، أم أن الحكايات مَنْ حكَتْ عنها، كيف علَّمَتْ السَيَّاف عزف الموسيقى بعد أن توقَّفَ عن قَطْع الرؤوس؟ تحكي عن جَدَّتها الحكاءة العظيمة "عشق زاد"، وعن 10 حكايات ستظل ناقصة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وتقول جملتها الأثيرة: "قلبي بأمان ما دام في العالم حكايات".
ينتهي تجوال الكاتب بزيارة الجنة والتجول في مكتبتها الكبرى، قبل أن يعود ثانية إلى الأرض، ويكتشف أنه لم يُدوِّن شيئًا مما رآه خلال تجواله، لكنه في الوقت نفسه يتذكَّر كل شيء. يمرُّ بعقله شريط الرحلة وكل مَنْ صادفهم، يتساءل: هل تحقَّقَتْ أمنياته لهم مثلما تحقَّقَت أمنياتهم له، ويُدرك أن جملة الحب التي صادفها في كل مكان هي واحدة من الجُمَل التي بُنِيَ عليها العالم وسيظَلُّ بخير ما دامت فيه.
في روايته "مزاج حُرّ"، يصنع "محمد الفخراني" مزيجًا خاصًّا من الواقع والخيال، ليس من المهم توصيفه، المهم أنه تجول بمزاج حُرّ.