تداخلت الأجندات الإقليمية والدولية في شمال شرق سوريا، فتحولت المنطقة إلى ساحة صدام.
صدامٌ فجّر الجغرافيا والتاريخ والهويات، حضرت فيه الخرائط الجديدة-القديمة، ومعها زحفت الجيوش والقوى المتقاتلة في كل الاتجاهات.
كل طرف يحمل راياته، حتى زُحمت سماء المنطقة بالطائرات والأعلام والبيارق بمختلف ألوانها.
إيران حشدت للمعركة السورية كل ذراع صنعته في محيطها الجيوسياسي، ووزعتهم على جبهات المعارك من "الزبداني" إلى حلب وريفها، وهي اليوم تقف على الطرف الغربي لنهر الفرات من دير الزور إلى البوكمال، ربما في انتظار لحظة رحيل أمريكا من شرق الفرات لتسبق تركيا إلى هناك.
بدورها تركيا، وبعد نحو قرن من التجربة التي وُصفت بـ"العلمانية"، وجدت في استعادة أحلامها التاريخية أفضل تعبير سياسي للتدفق جنوبا، فقامت بثلاث عمليات عسكرية انتهت باحتلالها مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، ضربا بكل قواعد القانون والأعراف الدولية.
وروسيا، التي جعلت من "حميميم" في اللاذقية على البحر المتوسط قاعدة عسكرية لإدارة معركتها السورية، استبَقت الجميع في فرض الوقائع، وقلب الموازين، ورسم الخرائط، وهي بتدخلها هذا لم تترك للأمريكيين سوى القبول بمنطق التفاهمات في شرق الفرات وتأكيد نهج التسوية السياسية، خاصة أن أمريكا باتت تنكفئ نحو الداخل أكثر فأكثر مع انسحابها من أفغانستان، واستعدادها للانسحاب من العراق، وإنْ كان هدفها من وراء استراتيجية الانسحاب هذه استنزاف الجميع عسكريا وأمنيا وماليا.
وفي ظل اندفاع الجميع إلى هذه الحرب المدمرة، وحدها إسرائيل أدارت المعركة بصمت وترقب ومتابعة حثيثة، وعمليات مدروسة أخذت شكل استهداف الوجود العسكري الإيراني وقوافل "حزب الله" الإرهابي على الأراضي السورية.
على الأرض، لم تقل الصورة دراماتيكية عن تدافع الخارج وتدفق أجنداته المختلفة.
فالأكراد لأول مرة وجدوا أن ما يحصل في سوريا فرصة تاريخية للتخلص من سياسة الإقصاء والتهميش والتجاهل، فتدفقوا في الجغرافيا جماعات سياسية بهوية اجتماعية، يؤسسون لإدارة ذاتية في شرقي الفرات، قاوموا تنظيم "داعش" الإرهابي فانتصروا بدعم جوي أمريكي في "كوباني"، قبل أن ينهزم "داعش" عسكريا في الباغوز، وهو تطور جعلت تركيا منه هدفا لمحاربة المشروع الكردي بحجة "تهديد أمنها القومي"، فصعّدت عسكريا، وغيّرت بوصلتها، إذ لم تعد أولويتها إسقاط حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، كما دعت طويلا، بل ضرب المشروع الكردي، وربما وجدت في هذا التحول أفضل وسيلة للنزول من قمة شجرة الأزمة السورية، خاصة بعد تقاربها مع روسيا وإيران في الملف السوري على وقع اجتماعات "آستانة" وزيادة خلافاتها مع الولايات المتحدة.
ولعل ما زاد المشهد تعقيدا هو أن معظم الذين رفعوا راية "الثورة" تحولوا إلى مليشيات ومنظمات مسلحة ومرتزقة، يقاتلون تحت راية تركيا هنا وهناك، حسب المعارك، التي تحددها لهم تركيا، وباتت هذه المجموعات في كثير من الأحيان ورقة مساومة في القضايا التي تورطت بها تركيا في ليبيا وسوريا والعراق، ما يجعل مبدأ الصفقات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في شمال شرق سوريا مرجّحا، كما حصل في عفرين ورأس العين، وسط محاولات تركيا جعل هذا الأمر سياسة ثابتة لها في اللعب على التناقضات الأمريكية-الروسية.
قوات سوريا الديمقراطية، "قسد"، التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال شرق سوريا، تدرك حقيقة التهديدات التركية ومخاطرها، وبدت حريصة على إرسال رسائل إيجابية لتنفيس التصعيد التركي، تطلعا إلى التهدئة والاستقرار، وعليه انتهجت خطابا انفتاحيا من ناحية، ومن ناحية ثانية نفذت العديد من الخطوات العسكرية والأمنية على الأرض، أملا في أن تتحول اتفاقات وقف إطلاق النار إلى ناظم للاستقرار والعلاقة والاعتراف بحق الأكراد، وأن تكون خلاصة كل ما سبق خروج تركيا من المناطق السورية التي احتلتها، إلا أن تركيا ترفض هذا الخطاب الكردي جملة وتفصيلا، وتصر على وضع قوات سوريا الديمقراطية في "خانة الإرهاب"، منطلقة من دوافع أيديولوجية ومطامع سياسية باتت معروفة وعلنية للجميع، وهو ما يعمّق صراع الأجندة والإرادات في شمال شرق سوريا، لكن الذي ينبغي قوله هنا هو أن جميع هذه العوامل تقترب من الاستنفاد، ما قد يشكل مدخلا لتفاهمات في مرحلة مقبلة.
بعد تسوية الوضع في "درعا البلد"، جنوب سوريا، تبدو إدلب وشرق الفرات عنوانين رئيسين في يوميات الأزمة السورية، وفي وقت انتظار اتضاح مسار التطورات فإن حروب الوكالة في شمال غربي سوريا مستمرة، دون أن يستطيع أحد الانتصار فيها بفعل العوامل والأجندة الإقليمية والدولية، التي تحدد سقف هذه الحروب بالتفاهمات بين اللاعبين الكبار، فالكل بات في حالة استنزاف، ولن يستطيع الخروج منها إلا بما يخطط له الروس والأمريكان، وسط حرصهما على إنجاز تفاهمات تؤسس لتلك التسوية المنشودة.. تسوية -إنْ جرت- فإنها ستكون بداية لمرحلة جديدة، مرحلة كيفية إعادة الهوية السورية، التي أصابها التشتت، مرحلة إعادة البناء السياسي للدولة، مرحلة إعادة إعمار ما دُمّر، مرحلة كيفية التخلص من مليشيات قدمت من مختلف أنحاء العالم، مرحلة لن تكون سهلة على السوريين في رحلة مُداواة ذواتهم، التي دُمرت على وقع حرب وأزمات معيشة تتفاقم يوما بعد آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة