روزفلت واختراع «الأمن القومي».. أمريكا تكتشف العالم على جسر شيكاغو

في 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1937، ألقى الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت واحدة من أكثر الخطب تأثيرًا في تاريخ السياسة الخارجية.
وتشير مجلة "فورين بوليسي"، إلى أن روزفلت لم يكن يخطط لاستغلال خطاب تدشين جسر جديد فوق نهر شيكاغو للحديث عن أزمة عالمية، إلا أن ما حدث كان مختلفًا تمامًا، إذ استغل روزفلت هذه المناسبة لإطلاق خطاب غير مباشر لكنه حاسم، وضع فيه حجر الأساس لمفهوم جديد كليًا للأمن القومي الأمريكي، وهو المفهوم الذي سيعيد تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة لعقود قادمة.
ووفقًا لهذا المفهوم الجديد، تغير معنى الدفاع الوطني جذريًا، من تعريف ضيق يركّز على الدفاع الإقليمي عن الأراضي الأمريكية إلى رؤية أوسع، حيث لم يعد الأمن القومي مجرد مسألة عسكرية أو جغرافية، بل أصبح يشمل حماية القيم الأيديولوجية والاقتصادية التي تشكل جوهر الهوية الأمريكية.
العالم في أزمة.. وأمريكا تتعافى
في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تعيش مرحلة تعافٍ من الكساد الكبير، الذي ضرب البلاد في بداية الثلاثينيات وأحدث أضرارًا اقتصادية واجتماعية جسيمة. وكان برنامج "الصفقة الجديدة" الذي أطلقه روزفلت قد بدأ يحقق نتائج إيجابية ملموسة، حيث ساعد في تحفيز الاقتصاد وتحسين حياة ملايين الأمريكيين من خلال مشاريع البنية التحتية، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات الاجتماعية.
على الصعيد الدولي، كان المشهد مختلفًا تمامًا. ففي خريف عام 1937، كان العالم يغلي بأحداث مقلقة، فبينما كانت ألمانيا النازية تعيد تسليح نفسها بسرعة، وكانت إيطاليا قد غزت إثيوبيا، والحرب الأهلية في إسبانيا كانت تشتد، وفي آسيا كانت القوات اليابانية تواصل اجتياحها للصين، مما أثار قلقًا متزايدًا في الأوساط السياسية الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الرأي العام الأمريكي كان يميل إلى الحياد وعدم التدخل في الشؤون الخارجية، فإن الأحداث في آسيا، خاصة الهجوم الوحشي للجيش الياباني على المدنيين في معركة شنغهاي، أثارت موجة من الصدمة والاستنكار في الولايات المتحدة، ودفع ذلك روزفلت إلى اتخاذ موقف أكثر حزمًا.
نحو مفهوم شامل للأمن
واستغل روزفلت خطاب الجسر ليعبر عن رؤيته الجديدة للأمن القومي، حيث ربط بين نجاحات الصفقة الجديدة داخليًا وبين التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة على الساحة الدولية.
وقال إن الأمريكيين لم يعودوا قادرين على تجاهل ما يحدث في العالم، وأن عليهم أن يفكروا في مستقبلهم من خلال فهم ما يجري في الخارج.
ووصف روزفلت ما يحدث في العالم بـ"عهد الإرهاب" الذي يهدد السلام والاستقرار، ودعا إلى فرض "حجر صحي" على الدول العدوانية مثل اليابان، لمنع انتشار الفوضى والحرب إلى بقية دول العالم. وكانت هذه الدعوة بمثابة تحذير مبكر من أن الولايات المتحدة لن تستطيع البقاء بمعزل عن الصراعات الدولية، وأن عليها أن تتخذ موقفًا نشطًا للحفاظ على أمنها ومصالحها.
وقد شكل جسر شيكاغو، الذي كان رمزًا لوحدة المدينة وتقدمها الاقتصادي، منصة مثالية لروزفلت ليقدم رؤيته عن وحدة العالم وأهمية الدفاع عن النظام الدولي.
ولم يكن الخطاب مجرد كلمات عابرة، بل كان بداية لثورة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي، حيث بدأ مفهوم الأمن القومي يتوسع ليشمل أبعادًا أيديولوجية وسياسية واقتصادية، وليس فقط عسكرية أو إقليمية.
ورغم أن هذا الخطاب لم يغير السياسة الأمريكية على الفور، بل واجه انتقادات داخلية شديدة، فإنه وضع الأسس التي بنى عليها روزفلت لاحقًا سياسة الولايات المتحدة الخارجية خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.