تصريحات روسية متتالية عن الأسلحة النووية، دارت حول تطوير العقيدة والتقنية، لكنها تبرز أهميتها المتزايدة في الصراع الجيوسياسي الحالي.
أحدث هذه التصريحات جاءت على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قال خلال اجتماع مع خريجي مؤسسات التعليم العسكري، الجمعة، إن روسيا تخطط لمواصلة تطوير أسلحتها النووية، وفقا لما نقلته وكالة أنباء "شينخوا" الصينية الرسمية.
وأوضح "خطتنا تضم مواصلة تطوير الثالوث النووي كضمانة للردع الاستراتيجي والحفاظ على توازن القوى في العالم".
والثالوث النووي عبارة عن هيكل قوة عسكرية ثلاثية الأبعاد من صواريخ باليستية برية عابرة للقارات، وصواريخ باليستية تطلق من الغواصات، وقاذفات استراتيجية محملة بالقنابل والصواريخ النووية.
وقبل هذه التصريحات بيوم واحد، قال بوتين للصحفيين، في ختام زيارة إلى فيتنام، الخميس، إن بلاده تدرس إدخال تعديلات محتملة في عقيدتها بشأن استخدام الأسلحة النووية، لكنه أكد أن روسيا "لا تحتاج إلى تنفيذ ضربة نووية وقائية".
والعقيدة الحالية تنص على أن روسيا تلجأ لاستخدام هذه الأسلحة ردا على هجوم نووي أو في حالة التعرض لهجوم تقليدي يشكل تهديدا وجوديا للدولة، بما يعني أن استخدام هذه الأسلحة دفاعي بالأساس.
كيف تطور روسيا أسلحتها النووية؟
لكن تصريحات بوتين عن تطوير الأسلحة النووية، لا تعني أن هذا التطوير سيحدث مستقبلا، بل إنه بدأ بالفعل.
إذ أشارت وثيقة صادرة عن خدمة أبحاث الكونغرس (CRS)، التي تعمل بناء على طلب من الكونغرس وتحت توجيهاته، في 21 مايو/أيار الماضي، إلى أن تقييمات وكالة الاستخبارات الأمريكية لعام 2024، تقول إن روسيا "تختتم تحديث قواتها النووية الاستراتيجية".
وتركز هذه التحديثات، بشكل خاص، على تطوير صاروخ SS-X-29 (سارمات) الثقيل، وهو صاروخ باليستي عابر للقارات، وصاروخ SS-27 مود 2 (صاروخ باليستي عابر للقارات)، وغواصة باليستية من طراز "بوري".
وتؤكد التقديرات أن روسيا تنشر غالبية الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
وأضافت أن روسيا لديها مجموعة متنوعة من الأنظمة ذات القدرة المزدوجة (القادرة على استخدام الرؤوس الحربية التقليدية أو النووية)، ويشمل ذلك صواريخ الضربة الدقيقة، والتي لا تندرج تحت أي اتفاقيات للحد من الأسلحة.
وفي علامة أخرى على التطوير، أشارت الوثيقة إلى تقييم التهديد السنوي (ATA) الصادر عن مجتمع الاستخبارات الأمريكي عام 2024، إذ قال التقييم إن "روسيا تقوم بتوسيع وتحديث" أنظمتها ذات القدرات المزدوجة "لأن موسكو تعتقد أنها تُجهز خياراتها لردع الخصوم، والسيطرة على تصعيد الأعمال العدائية المحتملة، ومواجهة القوات التقليدية للولايات المتحدة والحلفاء".
"تهديد خطير"
الوثيقة الأمريكية قالت أيضا، إن روسيا تمثل "تهديدا خطيرا" للولايات المتحدة وحلفائها، مضيفة: "منذ بدء حرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، هدد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باستخدام الأسلحة النووية ضد الغرب".
وتابعت أن روسيا "نشرت أسلحة نووية غير استراتيجية في حليفتها بيلاروسيا، وأعلنت تعليق بعض الالتزامات بموجب معاهدة ستارت الجديدة التي تحد من القوات النووية الاستراتيجية الأمريكية والروسية.
الوثيقة استعانت بتقديرات غير حكومية حديثة، لم تذكر مصدرها، تشير إلى أن روسيا تمتلك حوالي 1,710 رأس نووي.
هذه الرؤوس تنتشر على أساس ثالوث من مركبات الإطلاق الاستراتيجية التي تتكون تقريبا من 326 صاروخا باليستيا عابرا للقارات (ICBMs)، و12 غواصة صواريخ باليستية (SSBN)، بالإضافة إلى 192 صاروخا باليستيا يطلق من الغواصات (SLBMs)، و58 قاذفة استراتيجية.
ماذا عن العقيدة؟
قال الأستاذ الزائر بكلية الاستشراق في موسكو، رامي القليوبي في حديث إلى "العين الإخبارية"، إن بوتين تحدث بشكل أساسي عن تعديل العقيدة النووية الروسية التي تحدد 4 حالات فقط لاستخدام السلاح النووي، وهي:
الحالة الأولى: تلقي معلومات موثوق بها بانطلاق صواريخ باليستية في اتجاه روسيا وحلفائها.
الحالة الثانية: تلقي معلومات بممارسة العدو المحتمل تأثيرا على مواقع حكومية أو عسكرية حيوية روسية.
الحالة الثالثة: تعرض روسيا أو حلفائها لهجوم بأسلحة الدمار الشامل.
الحالة الرابعة: تعرض روسيا لهجوم بأسلحة تقليدية لكنها تشكل تهديدا لوجودها كدولة.
وحول تطوير هذه الحالات، قال القليوبي، إن "بوتين اقترح هذه المرة فعليا خفض عتبة استخدام السلاح النووي وزيادة عدد الحالات المنصوص عليها في العقيدة النووية الروسية".
وفسر ذلك بأن بوتين "يستند إلى أن أعداء روسيا في الغرب يطورون حاليا أسلحة نووية ذات قدرة إصابة خفيفة، وبالتالي يخشى أن يُصبح مثل استخدام هذه الأسلحة أمرا معتادا".
ومضى قائلا: "هناك دعوات بين المُنظرين السياسيين والعسكريين الروس، لإعادة الرعب النووي".
وأوضح: "على سبيل المثال، نشر أحد المُنظرين المقربين من الكرملين مقالا أثار ضجة كبيرة، قال خلاله إنه إذا استخدمت روسيا يوما سلاحا نوويا ضد دولة غير نووية في حلف شمال الأطلسي، فالولايات المتحدة لن ترد على ذلك بضرب روسيا بالسلاح النووي، لأن المنتصر لا يُحاكم".
وبالتالي، يعتقد القليوبي أن "مثل هذه الأفكار كان يتم تداولها في أروقة صنع القرار الروسي حتى وصلت - ربما - إلى صيغة ما، وربما ستترجم إلى تعديل العقيدة النووية في المستقبل القريب".
الصورة الكبيرة
وبتوسيع الصورة، فإن الدول المسلحة نووياً؛ الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل، حدثت ترساناتها النووية ونشرت العديد منها في عام 2023.
إذ كشف تقرير صادر مؤخرا عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أن نحو 9585 رأسًا حربيًا من بين 12121 رأسًا؛ إجمالي المخزون العالمي في يناير/كانون الثاني 2024، كانت موجودة تحت بند الاستخدام المحتمل.
وجرى نشر ما يُقدر بنحو 3904 من هذه الرؤوس الحربية على الصواريخ والطائرات؛ أي أكثر بـ 60 رأسًا مما كان عليه الوضع في يناير/كانون الثاني 2023.
ووفقا للمعهد الدولي، تعود جميع هذه الرؤوس الحربية تقريبًا إلى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. ولكن يُعتقد، للمرة الأولى، أن الصين لديها بعض الرؤوس الحربية في حالة تأهب تشغيلي عالٍ.
إلى ذلك، قال دان سميث، مدير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام: "بينما يستمر إجمالي الرؤوس الحربية النووية في العالم في الانخفاض مع التفكيك التدريجي لأسلحة حقبة الحرب الباردة، فإننا للأسف نرى زيادات سنوية في عدد الرؤوس الحربية النووية في حالة تأهب تشغيلي".
وأضاف: "يبدو أن هذا الاتجاه من المرجح أن يستمر وربما يتسارع في السنوات المقبلة، وهو أمر مقلق للغاية".
وتفصيلا لهذه النقطة، تسعى كل من الهند وباكستان وكوريا الشمالية إلى اكتساب القدرة على نشر رؤوس حربية متعددة على الصواريخ الباليستية، وهو ما تمتلكه بالفعل روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ومؤخراً الصين.
وهذا من شأنه أن يتيح زيادة محتملة سريعة في الرؤوس الحربية الموضوعة في حالة تأهب تشغيلي، فضلاً عن إمكانية قيام البلدان المسلحة نووياً بالتهديد بتدمير عدد أكبر بكثير من الأهداف.
وتمتلك روسيا والولايات المتحدة معاً ما يقرب من 90% من إجمالي الأسلحة النووية، وقد انخفضت الشفافية فيما يتعلق بالقدرات النووية في كلا البلدين في عام 2023.