يوما ما في المستقبل القريب أو البعيد سيكتب التاريخ عن أيامنا هذه أننا كنا غارقين في بحور من الكلام.
يوما ما في المستقبل القريب أو البعيد سيكتب التاريخ عن أيامنا هذه أننا كنا غارقين في بحور من الكلام، كلام في غالبه يَكْلِمُ أي يجرح ويُحزن، سيذكر التاريخ أن النخب الثقافية العربية؛ فيما بعد فوران الانتفاضات الشعبية في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين؛ كانت تسيطر عليها شهوة الكلام، كان هؤلاء المثقفون سكارى بخمر الكلام، يعبون منها بلا ارتواء، كمن يشرب ماءً مالحاً، يزداد عطشاً كلما شرب أكثر.
علاج شهوة الكلام أن نقتدي بسيدنا زكريا عليه السلام، أن نصوم عن الكلام، ولو لثلاثة أيام، حينها سيخف الضجيج، وتتراجع الأمراض النفسية، وتتحسن حياة الناس، وتنجو مجتمعاتنا من طريق الخراب الذي تقودها إليه نخبة الكلام.
تقرأ صحيفة أو تجلس أما التلفاز تشاهد الحوارات؛ تجد كلاماً فوقه كلام تحته كلام، عالم كامل من الحروف، والكلمات الفارغة الجوفاء، لا حقائق واقعية لها، ولا هدف من قولها، إلا أن تملأ فراغ الفضائيات، وتسوِّد بياض الصفحات بحروف ما فيها من حبر أكثر قيمة مما تحمله من أفكار ومعانٍ.
تحاول أن تخرج بفكرة أو رؤية أو طاقة أمل أو نور معرفة أو قيمة إنسانية تضيء طريق القادم من أيامك، لن تجد إلا ظلاما دامساً، سبابٌ ولعناتٌ، وتشكيكٌ، وتشاؤمٌ، لقد أدمنت نخبة البوم والغربان الحديث عن السلبيات، ومواطن الفشل، وتضخيم الأزمات، ونشر الفضائح، والرذائل في المجتمع. بل إن هناك منظومة متكاملة من القنوات الفضائية، والمواقع الإخبارية؛ تقف وراءها دولة غنية؛ تسخر مواردها، وتجيش كل إمكانات، وعلاقات هذه الدولة من أجل نشر ثقافة البوم والغربان.
ما تفعله قطر ومعها تركيا، وفي خدمتها شذاذ الأفاق من انتهازي تنظيم الإخوان الفاشل، والمؤلفة جيوبهم من بقايا اليسار والليبراليين؛ في جوهره هو نشر ثقافة البوم والغربان، وتضخيم الفشل، ودفع الشعوب إلى اليأس، والانفجار والتدمير، كل ذلك من خلال تعظيم شهوة الكلام عند الجميع، وتحويل البسطاء إلى متكلمين في القضايا التي لا تستطيع عقولهم استيعابها أصلاً، ولكنها شهوة الكلام التي ظهر للجميع أنها أشد الشهوات شراسة وقوة، وأعظمها تحكماً في الإنسان.
أمام شهوة الكلام تراجع العقل، وانزوى المنطق، وفقدت كل العلوم مضامينها؛ لأن المدمنين على شهوة الكلام يعتقدون أن الواقع كله كلام، وأن العالم عبارة عن كلام، وأن الحقائق في الكون يصنعها الكلام، ويغيرها الكلام، وإليك مثال تنظيم الإخوان الفاشل، وخلفه تركيا وقطر، جميعهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم يصنعون عالما من الكلام، يتهجمون على الدولة المصرية بكلام فارغٍ من المعاني، مليءٍ بالفراغ، خال من القيم، ويظنون أن هذا الكلام يستطيع أن يغير حقائق الواقع، ويصنع لهم واقع على مقاسهم، فالمرحوم محمد مرسي الذي حكم سنة واحدة؛ كان أنجح رئيس، وكان.. وكان.. وكان؛ وكأن التاريخ لا وجود له، والواقع عبارة عن سراب أو خيال، لذلك هم يصنعون واقعاً على مقاسهم بالكلام.
شهوة الكلام أكثر خطورة من جميع الشهوات الدنيئة في الإنسان؛ لأنها شهوة مدمرة، ينتقل ضررها من القائل إلى السامع أو القارئ، وهم كثر، فيتعدد تدميرها بتعدد من يتلقى الكلام، ويؤمن به، ويعمل طبقاً له، لذلك كل القتل والتدمير الذي يحدث في الدول العربية في عصرنا هذا كان ناتجا عن كلام في صورة خطب عصماء لسياسيين انتهازيين، أو لرجال دين من عدماء الدين، وتجار الدين. الكلمة قد تبني وقد تهدم، وترفع صاحبها إلى مقام المصلحين، وتهوي به مع القتلة والمخربين.
كنتُ ولم أزل أتأمل لماذا كانت إجابة الله سبحانه وتعالى لسيدنا زكريا بالامتناع عن الكلام؛ عندما سأله عليه الصلاة والسلام أن يجعل له آية مثل آيات باقي الأنبياء، فقال الله سبحانه وتعالى له كما جاء في القرآن الكريم: {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} (آل عمران- 41)، كيف يكون الصمت آية وعبادة يأمر الله سبحانه بها نبيا من أنبيائه؟
الصمت رياضة وعبادة وحكمة ما أحوج مجتمعاتنا إليها، نحن في حاجة إلى الصمت في هذا الضجيج الفظيع الذي أذهب العقول، ولوث القلوب، وحول طبقة من البشر؛ هي الأكثر تعلماً تغرق في ثرثرة فارغة تصم الأذان، ولا تنير العقول، قديما وصف الإغريق الحكماء هذا الصنف من المثقفين بالسفسطائيين، أولئك المتلاعبون بالكلام الخالي من المعاني، عديم المنطق؛ لملء العقول بالأوهام والأكاذيب، والعبث بالمجتمع بأن ينقلب الحق باطلا، والباطل حقاً، فتضيع الحقائق، وتفسد المجتمعات.
شهوة الكلام في مجتمعاتنا تقودها إلى التفكيك والخراب، فحقيقة الظواهر المدمرة التي تعصف بالمجتمعات العربية هي في جوهرها كلام، ظاهرة الحوثيين في اليمن كلام من شخص تم تدريبه في إيران ولبنان ليكون نسخة بالكربون من سيد الكلام السيد حسن نصرالله؛ الذي صنع أكبر قوة في الدولة اللبنانية بالكلام، وكل ظاهرة الإخوان كلام، لم يظهر منهم حقائق في تاريخهم إلا في السنة الوحيدة التي حكم فيها المرحوم محمد مرسي، وكانت كارثة على الإخوان، وعلى كل من كان يؤمن أن في الإسلام طرح سياسي قادر على تحقيق الخير للناس، ومأساة إيران كلام خرافي يلبس مسوح الدين، امتلأت به العقول فخربت المجتمعات.
علاج شهوة الكلام أن نقتدي بسيدنا زكريا عليه السلام، أن نصوم عن الكلام، ولو لثلاثة أيام، حينها سيخف الضجيج، وتتراجع الأمراض النفسية، وتتحسن حياة الناس، وتنجو مجتمعاتنا من طريق الخراب الذي تقودها إليه نخبة الكلام.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة