بطريقة شعبوية أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، هاجم المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب الكثير من الحكومات والمنظمات والدول.
بطريقة شعبوية أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، هاجم المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب الكثير من الحكومات والمنظمات والدول. وخص الصين بحيز من خطابه المتطرف، متهماً إياها بـ«غزو» الولايات المتحدة تجارياً، وعدم احترام الاتفاقات التجارية، وتخفيض عملتها، وزعزعة الاستقرار في منطقة بحر الصين، وهدد بوضع تعرفة جمركية على الواردات الصينية تصل إلى ٤٥% إذا ما أضحى رئيساً. وبعد انتخابه تراجع عن الكثير من وعوده وتهديداته الانتخابية في الشأنين المحلي والعالمي، إلى درجة أقنعت الكثير من المحللين بأن ضرورات الحكم والدبلوماسية ستفرض على الرئيس سلوكاً يقطع مع ذلك الذي تبناه المرشح.
لكن في الثاني من الشهر الجاري فاجأ ترامب العالم بإعلانه من منصة «تويتر» أنه تلقى مكالمة هاتفية من رئيسة تايوان تساي انغ-وين التي هنأته على فوزه بالرئاسة، وأنه يشكرها، مبدياً استغرابه من ردود الفعل المستنكرة بأن الولايات المتحدة تبيع تايوان معدات عسكرية بمليارات الدولار، ولكن رغم ذلك ليس عليه أن يقبل اتصالاً من رئيستها لتهنئته.
هذا الاتصال هو الأول من نوعه منذ العام ١٩٧٩ عندما قرر الرئيس كارتر قطع العلاقات مع تايوان، والاعتراف بـ«الصين الواحدة» وعاصمتها بكين، تكريساً لمسار تقارب مع الصين الشيوعية افتتحته «دبلوماسية البينغ بونغ» (عندما شارك فريق أمريكي في مباراة بكرة الطاولة في بكين، العام ١٩٧١) التي عبدت الطريق أمام زيارة سرية لهنري كيسنجر إلى العاصمة الصينية مهدت لزيارة الرئيس نيكسون لها في العام ١٩٧٤.
ومنذ تطبيع العلاقة بين البلدين اعتاد الرؤساء الأمريكيون على تقليد يقضي بزيارة بكين بعد أشهر قليلة على استلامهم للحكم. وهذا تقليد لم يخرج عنه سوى الرئيس كلينتون بسبب مقاطعة الصين احتجاجاً على قمعها تظاهرات تيانامين العام ١٩٨٩. لكن بعد انتهاء هذه المقاطعة سارع كلينتون في بداية ولايته الثانية إلى القيام بزيارة كانت تاريخية إلى الصين، في العام ١٩٩٧، اصطحب معه فيها أكثر من ألف رجل أعمال ومدير شركة كبرى. ورد الرئيس جيانغ زيمين الزيارة في السنة التالية حيث بقي تسعة أيام في أراضي «الإمبريالية» الأمريكية، وقع خلالها على عقود بعشرات المليارات من الدولارات. وقد حملت كل زيارة أمريكية للصين تأكيداً متجدداً أن «الصين واحدة»، وأن إعادة توحيدها ينبغي أن تتم بطرق سلمية، وهذا ما تؤيده بكين في الحقيقة التي تستفيد من الشراكة التجارية المميزة مع تايوان التي تبقى بلداً غير ذي سيادة.
المهم أن ترامب على ما يبدو، يريد القطع مع هذا التقليد. فبعد الاتصال الهاتفي مع رئيسة تايوان هدد، في ١١ من الشهر الجاري، بأنه سيعود عن الاعتراف الأمريكي بصين واحدة، اللهم إلا في إطار اتفاق جديد معها.
وللتذكير فإن رئيسة تايوان، وهي زعيمة الحزب الديمقراطي التقدمي، كانت انتخبت في يناير/كانون الثاني المنصرم بفضل دعم الفئات العمرية الشابة المؤيدة للاستقلال عن الصين. ومؤخراً حصل تراجع كبير في شعبيتها، وتلقت دعوات من الحركات الاستقلالية لوضع حد للستاتيكو الحالي في تايوان، أي «لا استقلال عن الصين ولا اندماج معها»، وذلك في اتجاه الاستقلال النهائي.
هذا الأخير أحاط نفسه بالكثير من المستشارين المعادين للصين والمؤيدين لتايوان، ومنهم الاقتصادي بيتر فاري، والرئيس السابق لمركز الدراسات المحافظ «هيريتج فونديشن»، ادوين فولنر، كما المدير المعين لمكتب البيت الأبيض رنيس بريبوس اللذين سبق والتقيا الرئيسة التايوانية عندما كانت زعيمة للحزب الديمقراطي التقدمي.
من جهتها، اعتبرت الصين أن المكالمة الهاتفية ليست سوى«حيلة صغيرة» دبرتها تايبيه، ولن تؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية. ونقل وزير الخارجية الصيني وانغ يي، احتجاجاً علنياً إلى الطرف الأمريكي، مشدداً على أن «سياسة الصين الواحدة» هي حجر الأساس في العلاقات بين بكين وواشنطن. أكثر من ذلك، فقد جاء الرد الصيني بنبرة ترتقي إلى مستوى التهديد الأمريكي، وذلك بقلم صحيفة صينية إلكترونية «غلوبال تايمز» التي أكدت أن مسألة الصين الواحدة لا تراجع عنها، ولا تفاوض حولها، ولا مساومة فيها (ترامب يريد تنازلات تجارية صينية في مقابلها)، واصفة ترامب بأنه «جاهل بالدبلوماسية تماماً كطفل»، ومتوعدة الولايات المتحدة بأنها إذا دعمت استقلال تايوان، أو قدمت لها المزيد من الأسلحة فإن الصين قادرة على دعم الكثير من الأطراف المعادية للولايات المتحدة في العالم.
وكان الرئيس الصيني كسي جينبينغ، في ١٩ من الشهر الجاري، دعا قادة منطقة آسيا- الباسيفيك إلى دعم الاتفاق الإقليمي للتبادل الحر الذي تقترحه بكين لتعبئة الفراغ الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة، أي أن الصين تتعامل مع وعود ترامب بالانسحاب من التكتلات الاقتصادية بالسعي لتعبئة الفراغ، وربما الحلول محلها في قمرة الزعامة الدولية.
من المشكوك فيه أن يتمكن ترامب من تنفيذ تهديداته للصين، فالعولمة جعلت الارتباط الاقتصادي بين البلدين وثيقاً لا انفكاك فيه، بدليل أن الصين سارعت إلى شراء المزيد من سندات الخزانة الأمريكية، (وباتت تملك منها ثلاثة تريليونات دولار) في العام ٢٠٠٨ لتلافي سقوط الاقتصاد الأمريكي في أزمة لا خروج منها. وسيكون من الحماقة بمكان استفزاز العملاق الصيني لمصلحة العلاقة مع بلد صغير يحتاج إلى المعونة والحماية. وعلى الأرجح أن يتدخل من أصحاب الخبرة والدراية، أمثال كيسنجر وبريجنسكي وغيرهما، لعقلنة ترامب، ولجم جنوحه.
* نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة