انتقلت المواقع الرقمية من مجرد التنبؤ بسلوك المستخدمين إلى التأثير عليه، وتغيير توجهاتهم وأفكارهم وإقناعهم بأفكار وتوجهات أخرى.
بثَّت قناة "نتفلكس" فيلماً تسجيلياً بعنوان "المُعضلة الاجتماعية"، تناول التداعيات الأخلاقية والاجتماعية لعصر المعلومات ولقضاء ملايين البشر ساعات طويلة في مُتابعة المنصات والقنوات الرقمية على هواتفهم المحمولة، وخصوصاً الشباب منهم أو ما يعرف باسم "جيل الألفية". جاء هذا الفيلم كجزء من حوار علمي وسياسي واجتماعي تعرفه الدول الغربية المتقدمة حول هذا الموضوع، والذي زاد الاهتمام به في عام 2020 هو الإقبال المضطرد على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في ظروف الإغلاق والتباعد القهرييْن.
فمع تبلور ثورة الاتصال والمعلومات في بداية هذا القرن، ازدادت أعداد المستخدمين لأدوات التواصل الاجتماعي، وتنوعت الخدمات التي توفرها المنصات الرقمية وتشمل كل نواحي الحياة من تسلية وترفيه ورياضة وسياسة وأخبار وتحليلات واقتصاد وتجارة وطب وتعليم وغيرها من المجالات. ويتم ذلك بأعلى درجات السرعة والكفاءة والمتعة والإبهار، مما أدى إلى ارتباط الإنسان المعاصر ارتباطاً وثيقاً بجهاز الحاسب الآلي أو الهاتف الذكي.
وفي السنوات الأخيرة، صدرت بحوث تشير إلى التأثيرات السلبية لهذا "الإدمان" الإلكتروني وتُنبه إلى نتائجه، ثم صدرت بحوث أخرى توضح أن هذا الإدمان ليس سلوكاً اختيارياً للفرد وإنما نتيجة سياسات قصدية منظمة لشركات المعلومات الكبرى في العالم. وهي سياسات مبنية على نتائج بحوث في موضوعات علم النفس والذكاء الاصطناعي.
ونقطة البدء في فهم هذه التأثيرات السلبية، معرفة أن هذه الشركات هي مؤسسات تجارية هدفها الربح، وأن ملَّاكها يسعون إلى تعظيم عوائدهم، وأن سبيل تحقيق ذلك هو أن يقضي أكبر عدد من البشر أكبر عدد من الساعات في حالة اتصال مع الإنترنت وأدوات التواصل الاجتماعي.
وجدت هذه الشركات الحل في التعرف على ميول وأذواق مستخدميها، وجمع أكبر قدر من المعلومات عن توجهاتهم وتفضيلاتهم. وقد حققت ذلك من خلال نماذج البيانات التي يجب على المتصل ملؤها قبل الاستفادة من الخدمة، والتي تتضمن قبوله لسياسات الاستفادة من هذه المعلومات، وأيضاً من خلال متابعة رغباته واحتياجاته التي تظهر في الموضوعات التي يبحث عنها، ثم يتم إغراقه بالأخبار والبيانات المتعلقة بهذه الموضوعات.
فيكفي مثلاً أن تقوم بالبحث عن معلومات خاصة بسيارة من طراز معين، وسوف تجد عشرات الرسائل القادمة إلى حسابك الإلكتروني عن أنواع السيارات المماثلة لما بحثت عنه ومزايا كل منها، أو يكفي أن ترسل استفساراً عن أحد الفنادق في إحدى المدن، لتصلك بعدها عشرات الرسائل عن الفنادق الأخرى المتاحة وأسعارها ومزاياها. بل ويتكرر إرسال هذه المعلومات إليك بين فترة وأُخرى بشكلٍ دوري.
ويتعرف الموقع الإلكتروني على رغبات المستخدمين وتفضيلاتهم أيضاً من خلال متابعة دخولهم على موقع ما أو مشاهدتهم لفيلم أو برنامج تلفزيوني أو لمضمون الرسائل التي يتبادلونها مع الآخرين، أو نوع الأصدقاء والمعارف. ومن ثم، يستطيع الموقع أن يرسم صورة عن السمات الشخصية لهذا المستخدم، وأن يحدد تفضيلاته الاجتماعية والسياسية والاستهلاكية، وبناءً على ذلك يقوم بالتنبؤ بسلوكه، فأنت أيها الإنسان دائماً ما تكون تحت "الرقابة الرقمية".
ومن الأمثلة الشهيرة على استخدام المعلومات للتعرف على السلوك الانتخابي والتأثير عليه، حادثة شركة كامبردج أناليتيكا البريطانية التي قامت بجمع البيانات الخاصة بخمسين مليون ناخب أمريكي، والمتاحة على صفحات موقع فيسبوك، وتحليل اتجاهاتهم التصويتية المُحتملة، ثم بيعها إلى الحملة الانتخابية لترامب في عام 2016. وكان ذلك محل تحقيق في بريطانيا والولايات المتحدة.
وفي مرحلة تالية، انتقلت المواقع الرقمية من مجرد التنبؤ بسلوك المستخدمين إلى التأثير عليه، وتغيير توجهاتهم وأفكارهم وإقناعهم بأفكار وتوجهات أخرى، مستفيدة في ذلك من نتائج البحوث في مجال الأعصاب واللاوعي وتأثيره على تفكير الإنسان وسلوكه، وكذلك الأبحاث الخاصة بالتأثيرات العاطفية وغير العقلانية على سلوك الإنسان، وهي أبحاث تتم بتمويل هذه الشركات وتحت إشرافها. وفَّرت نتائج هذه الأبحاث المعرفة بمخاوف البشر وهواجسهم من ناحية، وعلى طموحاتهم وأطماعهم وأحلامهم من ناحية ثانية، واستُخدمت هذه النتائج في تطبيقات إلكترونية تتضمن مزيجاً من أساليب الإمتاع والضغط، ومن الإبهار والتوجيه الذي يقترب أحياناً من "الإكراه" والتلاعب بالعقول، والذي أصبح أساساً للتقدم في تطبيقات تكنولوجيا التأثير والسيطرة العقلية والنفسية. والمثير للدهشة، أن ملايين الأفراد يتعاملون مع هذه التطبيقات والبرامج الإلكترونية معتقدين أنهم يفعلون ذلك بقرار منهم ولا يدركون التأثير أو التوجيه الذي يتعرضون له.
وباختصار، فإن استراتيجية المنصات الرقمية هي ضمان استمرار المستخدمين لها لأكبر وقت، والتأثير على أفكارهم وسلوكهم بما يتوافق مع هذا الهدف. وبذلك، تتحقق إعادة هندسة الأفكار والسلوك. ولا يمكن بالطبع أن يتوقف أحد منا عن استخدام هذه المنصات، فهذا أمر غير ممكن وغير مفيد، ولكن المطلوب إدراك أنها أدوات غير محايدة، وأن لها أهدافها وانحيازاتها.
والمطلوب من المستخدم أن يتنبه إلى هذه الحقيقة فلعل ذلك يساعده على الاحتفاظ بقدر من الحرية والاستقلال إزاء تلك المنصات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة