أنقرة.. توظيف سياسي مكشوف للأئمة الأتراك في الغرب
في مقابل الأبعاد الدعوية للأئمة والخطباء الأتراك في أوروبا، فإن تركيا تسعى من وراء ستار إلى توظيفهم سياسياً.
تشهد العلاقات التركية الأوروبية توتراً كبيراً منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام، على خلفية عدد معتبر من القضايا الشائكة والمعقدة، في الصدارة منها تصاعد الأدوار السلبية للأئمة المتشددين في أوروبا، وبخاصة الأئمة الأتراك التابعين للاتحاد الإسلامي التركي "ديتيب".
- الاحتلال المقنع.. تركيا تفتتح قاعدة عسكرية جديدة في قطر
- وثائق سرية تفضح تجسس سفارة تركيا بالنرويج على معارضي أردوغان
واتجهت الدول الأوروبية في الشهور الماضية إلى الاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في مساجدها منعا لترويج نسخة الإسلام السياسي المتشددة في المجتمعات الأوروبية، وتراجعت الصورة الذهنية للاتحاد التركي بعد تورط أعضائه في فضائح تجسس في بعض الدول الأوروبية لمصلحة حكومة العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي دفع دولا مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا إلى التضييق على أنشطة الاتحاد ومشاريعه.
التوظيف السياسي
بات أحد أبرز الاتجاهات المتصاعدة في السياسة الخارجية التركية تجاه أوروبا، خلال السنوات الماضية يتمثل في إضفاء طابع سياسي على أدوار الأئمة الأتراك والاتحاد الإسلامي التركي في أوروبا، وتوظيفها كورقة ضاغطة للتأثير على توجهات الغرب بشأن الملفات الشائكة مع تركيا.
ويمثل الأئمة الأتراك في الغرب وسيلة ناجحة لتوعية المهاجرين الأتراك بأمور دينهم، وربطهم بالوطن الأم، غير أن مضمون الكثير من خطابات الأئمة الأتراك وطبيعة عمل الاتحاد الإسلامي التركي "ديتيب" في الغرب صار سياسيا أكثر منه دعوياً.
وبرغم أن الاتحاد الإسلامي التركي DITIB " الذي تأسس في عام 1924، كان الهدف منه الحفاظ على الإسلام في الجمهورية التركية العلمانية، لكن في عهد أردوغان تحول إلى أداة سياسية لتعزيز مصالح حزب العدالة والتنمية. كما لم تكن حتى وقت قريب وظيفة DITIB سياسية صريحة.
استعادة الإرث العثماني: مع تراجع تأييد القواعد الانتخابية للعدالة والتنمية في صفوف الأتراك المقيمين في أوروبا، والذي ظهر واضحاً في رفض قطاع واسع منهم للتعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي، وتصويت قطاعات واسعة لمصلحة أحزاب المعارضة في الاستحقاق الرئاسي في يونيو 2018، بدأت DITIB تظهر كأداة للنظام، وأصبح الاتحاد إحدى أذرع الرئيس التركي. وتجلى الاستخدام السياسي للأئمة الأتراك في أوروبا في ترويج خطاب سياسي يستدعي إرث العثمانية القديمة، ومحاولة إحياء مظاهرها في ثوب جديد، خصوصا أن أردوغان يرى أن هناك عدداً من دول أوروبا تُعد امتداداً للوجود التاريخي العثماني في أوروبا في الماضي.
التحكم في الأتراك المغتربين: يستخدم الرئيس التركي DITIB كجزء من شبكات التحكم في الأتراك المغتربين من أجل أهدافه الخاصة. ويقول معهد برلين للسكان والتنمية إن المهاجرين الأتراك هم الأقل اندماجا في المجتمع الألماني، ولا تريد تركيا لمواطنيها الاندماج الكامل في المجتمعات الأوروبية حتى لا تنقطع صلتهم ببلدهم الأصلي، ولذا تعمل بكثافة عبر الأئمة والمساجد التابعة لها للهيمنة على الجاليات التركية في أوروبا.
وتعد DITIB المنظمة الأكبر للجالية التركية المسلمة في أوروبا وتتبع مباشرة أنقرة، وتدير شؤون نحو 900 مسجد وجماعة دينية في ألمانيا، إضافة إلى إدارة مساجد في النمسا وفرنسا وغيرهما.
وفي الوقت الحالي، تنشر المساجد والمؤسسات التابعة لـ"ديتيب"، بحسب الأجهزة الأمنية الأوروبية، رؤية للإسلام معادية للغرب تماما، ولا تشجع أتباعها ورواد مساجدها على الاندماج، بل تشجع على قيام المجتمعات الموازية.
دعم الأنشطة الاستخباراتية: تستثمر تركيا الأئمة والخطباء في تكوين لوبي ديني مسيّس في القارة الأوروبية من أجل خدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية وتحقيق أجندتها، وذلك عبر توظيف هؤلاء الأئمة والخطباء بأوروبا في الأنشطة الاستخباراتية، وعمليات التجسس على المعارضين لنظام الحكم في تركيا، ناهيك عن إعداد وكتابة تقارير موجهة للحكومة التركية عن أعضاء في حركة الداعية عبدالله غولن. وفي عام 2018 ألقت الاستخبارات الألمانية القبض على أئمة من DITIB موالين لأردوغان، وبحوزتهم قوائم بمشتبه فيهم من أنصار غولن، تم تقديمها للسلطات التركية.
تصدير صورة مغايرة لتركيا في صفوف مسلمي الغرب: تعول تركيا على المساجد التابعة لها في أوروبا للتأثير على المسلمين المقيمين في المجتمعات الغربية، عبر خطاب سياسي يرتكز على تصدير صورة ذهنية لتركيا باعتبارها حامية الإسلام. كما تستهدف عبر هذا الخطاب تطويع تيارات الإسلام السياسي في الغرب وفقاً لأجندتها الخاصة.
ممانعة أوروبية
تتزايد المخاوف الأوروبية، على المستويين الرسمي والشعبي، من تغلغل نفوذ الأئمة الأتراك في أوروبا، خاصة مع تصاعد أدوارهم المشبوهة، ووصل القلق إلى الذروة مع انتشار مقاطع فيديو لأطفال يمثلون معارك العثمانيين في مساجد "ديتيب" إضافة إلى تمجيد هذه المساجد للهجوم العسكري التركي على مدينة عفرين الكردية في يناير 2018.
وفي إطار جهودها ومساعيها المتواصلة لمواجهة ظاهرة الخطباء الأتراك، لجأت الدول الأوروبية إلى سلسلة من التدابير القانونية والإجرائية، ففي فبراير 2019 فعّلت النمسا قانوناً يحظر التمويل الخارجي لأئمة المساجد، لمنع تمويل الكثير من الاتحادات الإسلامية والمساجد من تركيا. وفي مارس الماضي، أيدت المحكمة العليا في النمسا قرار الحكومة النمساوية طرد الأئمة المسلمين الذين تمولهم تركيا، في إطار مكافحة الإسلام السياسي.
ولم تكن هذه الإجراءات هي الأولى التي تتخذها النمسا، ففي فبراير 2015 عندما وافق برلمان النمسا على مشروع قانون ينص على إخلاء البلاد من الأئمة الأتراك العاملين في مساجد تابعة لفرع الاتحاد الإسلامي التركي DITIB بالنمسا، والامتناع عن استقبال أئمة جدد من تركيا. كما تفحص النمسا منذ وقت ملفات رفعها بيتر بيلز النائب آنذاك عن "حزب الخضر"، ويتهم فيها فرع DITIB في النمسا بالتجسس لصالح أنقرة. وأكد "بيلز" حيازته معلومات تثبت ضلوع " DITIB " في مراقبة عناصر من جماعة "خدمة" إضافة إلى أكراد وصحفيين معارضين.
وفي برلين، تغيرت نظرة الحكومة الألمانية للاتحاد الإسلامي التركي من شريك في ملف اندماج المهاجرين إلى منظمة تحيط بأهدافها ونظم عملها الشكوك. ولذلك خفضت الدعم المالي الذي كانت تقدمه للاتحاد الإسلامي التركي ليصل في عام 2018 إلى 300 ألف يورو مقابل 1,5 مليون يورو في عام 2017 بفعل تصاعد الشكوك المحيطة بالمنظمة.
في سياق متصل، لجأت حكومة ميركل إلى تبني نهج أكثر تشدداً، والبدء في اتخاذ خطوات ملموسة للحد من نفوذ تركيا على المساجد في ألمانيا، وأعلنت الحكومة في مارس 2019 خططا لتعديل قانون الإقامة ليصبح لزاماً على القيادات الدينية الأجنبية الإلمام باللغة الألمانية.
كما أعلن عدد من النواب الألمان نهاية ديسمبر 2018 بدعم من المحامية الألمانية ذات الجذور التركية سيرين أطيش توجههم لفرض ضريبة على المساجد الموجودة في ألمانيا، أسوة بما هو معمول به على الكنائس. وتزامن مشروع القرار مع تصاعد الأدوار السلبية للأئمة المتشددين في ألمانيا، خاصة الأئمة الأتراك. كما تزامن هذا التحرك مع توجهات سلبية وأعمال تخالف القانون يقوم بها الخطباء المتشددين بعيداً عن القانون، وهو ما يسهم في انتشار العنف والأفكار الأصولية في المجتمع الألماني.
بالتوازي مع جهود دول مثل ألمانيا والنمسا، وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أبريل 2019 بألا يكون هناك أي "تهاون" في مواجهة أولئك الذين يريدون فرض "إسلام سياسي يسعى إلى الانفصال" عن المجتمع الفرنسي. كما وبخت فرنسا، في مايو الماضي على لسان وزير التعليم، الحكومة التركية رداً على سعي أنقرة نحو تأسيس مدارس دينية في فرنسا.
وأعلنت فرنسا مراراً أنها لا ترغب في توظيف أئمة مساجد من تركيا في مساجدها التي تقدر بنحو 2200 مسجد، وقررت تخفيض عدد الأئمة القادمين إليها من تركيا بمعدل 5 سنويا، نظراً لما يقومون به من نشر للفكر المُتطرّف من بوابة التعليم الديني. كما سبق وأن حذّر مركز الأبحاث الليبرالي "مونتاني" في باريس مما سمّاه "مصانع إنتاج الأسلمة" التركية.
وتتزايد المخاوف الأوروبية بسبب تبعية معظم الأئمة والمؤسسات الدينية في الغرب للاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) اليد الطولى للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أوروبا.
خلاصة القول، إنه في مقابل الأبعاد الدعوية للأئمة والخطباء الأتراك في أوروبا، فإن تركيا تسعى من وراء ستار إلى توظيفهم سياسياً، وهو ما دفع الدول الغربية إلى إقرار تشريعات قانونية، والبدء بإجراءات عقابية لمنع دخول الأئمة الأتراك إلى الأراضي الأوروبية، وتقليم أظافر الكيانات الدينية التي تشرف عليها أنقرة، وتمثل الذراع الطولى للرئيس التركي في أوروبا التي لا تزال ترفض عضوية أنقرة ضمن عائلتها بفعل انحرافها عن قيم ومعايير الديمقراطية الغربية.
aXA6IDMuMTQxLjIwMS4xNCA= جزيرة ام اند امز