الملف السوري هو موضوع آخر بالنسبة للكرملين لا يمكن التفريط فيه بمثل هذه السهولة حتى ولو كانت تركيا هي المعنية.
زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى أنقرة جاءت بمثابة اللقاء الثامن بينه وبين نظيره التركي رجب طيب أردوغان، كلاهما تحدث عن تحسن العلاقات الثنائية وتعزيزها وخروجها من أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تركيا قبل عامين التي كادت أن تقودهما إلى المواجهة على أكثر من جبهة.
هناك حقيقة أخرى، هي وجود أكثر من ملف خلاف وتباعد إقليمي تركي روسي في آسيا الوسطى والبلقان والشرق الأوسط يتصدرها اليوم الملف السوري، حتى ولو برز الحديث عن التفاهمات والتسويات هناك، فهذا التقارب هو ظرفي مرحلي لن يدوم طويلا.
خطط التحرك المشترك تقوم اليوم على تسريع وتيرة التعاون بين البلدين في مجالي الصناعات الدفاعية والطاقة النووية، وإشراك روسيا في مشروع خط الحرير الحديدي الجديد، الذي وُضِعت أسسه بين تركيا وأذربيجان وجورجيا، إلى جانب تسريع الأعمال في مشروع السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، ومحطة "أك كويو" للطاقة النووية السلمية في تركيا التي تشرف روسيا عليها، دون أن ننسى طبعا قرار أنقرة شراء منظومة الدفاع الجوي إس – 400، والارتفاع التدريجي في أرقام التبادل التجاري وعدد السياح الروس الوافدين إلى تركيا .
لكن هناك حقيقة أخرى هي وجود أكثر من ملف خلاف وتباعد إقليمي تركي روسي في آسيا الوسطى والبلقان والشرق الأوسط يتصدرها اليوم ملف الأزمة السورية حتى ولو برز الحديث عن التفاهمات والتسويات هناك، فهذا التقارب هو ظرفي مرحلي لن يدوم طويلا، لأن حسابات ومصالح الجانبين ستتعارض عاجلا أم عاجلا كلما تقدمت صيغ الحلول والتسويات في سوريا .
الوقائع الميدانية التي تعكس حجم التباعد التركي الروسي في سوريا قد لا تعقد المصالح الثنائية، لكنها تتطلب جهودا جبارة لإزالة أسباب الخلاف وتجذره في الموضوع السوري، مما يجعل التفاهمات شبه مستحيلة في القريب العاجل رغم كل لقاءات واجتماعات الأستانة وسوتشي.
- يقول الرئيس الروسي إن 92% من الأراضي السورية تطهرت من الإرهابيين، وإنه "تمكنا من تفادي انهيار سوريا ومنع وقوعها في أيدي إرهابيين دوليين" وإنه تم بلوغ مرحلة جديدة في الأزمة السورية لكن الوصول إلى حل سلمي سيتطلب تنازلات من كل الأطراف..
أنقرة ترى هنا أن بوتين يختزل الموضوع في القضاء على تنظيم داعش فقط، وكأن حراك الشعب السوري قبل 7 سنوات من أجل مطالب الإصلاح والتغيير لا وجود لها أو كأن النظام لم يلجأ إلى إيران والمحسوبين عليها لدعمه في تدمير سوريا تحت عنوان إسقاط المؤامرة.. فهل ستقبل أنقرة بهذه المقولة الروسية وتطلق يدها للبناء عليها وإعلان خطة الحلول والتسويات في سوريا؟.
- ترى تركيا في حزب العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري مجموعتين تشربان من نبع سياسي وعقائدي واحد، وهي تصفهما بتنظيمين إرهابيين يستهدفان أمنها وحدودها وسيادتها، موسكو لا تتردد في قول العكس ولا تشعر بالحاجة حتى لإخفاء علاقاتها بهما، وأفضل دليل على ذلك وجود مكاتب ارتباط للحزبين في روسيا، وعدم إدراجهما في قائمة المنظمات الإرهابية الروسية، وتوفير الحماية لهما في عفرين، وتنفيذ حزب الاتحاد الديمقراطي في الآونة الأخيرة عمليات عسكرية في شرق الفرات بدعم جوي روسي .
- العقبة الثالثة هي موضوع إصرار تركيا على الدخول العسكري التركي المباشر إلى مدينة عفرين بالتنسيق مع قوات الجيش السوري الحر، وهو ما ترفضه موسكو حتى الآن.. أنقرة تقول إنها تريد قطع الطريق على عمليات التسلل لمجموعات "العمال الكردستاني"، الذين يستخدمون عفرين كقاعدة للوصول إلى محافظة هتاي الحدودية؛ ولهذا هي تصر على محاصرة عفرين وتواصل الحشد العسكري هناك، وموسكو تقول إنه على أنقرة أن تنهي ملف إدلب وتترك موضوع عفرين إلى التسويات السياسية النهائية في الملف السوري، وهذا ما يباعد بينهما أكثر فأكثر هناك.
- المشكلة الأخرى هي قضية التحالفات المحلية التي بنتها أنقرة في إدلب عبر وسطاء يوفرون لها إيصال رسائلها إلى "هيئة تحرير الشام" بهدف إقناعها بحل تنظيماتها ومجموعاتها والالتحاق بالجيش السوري الحر، وحيث يلاحظ أنه حتى الآن لم تثمر هذه المحاولات بما يرضي ويقنع الروس أن تركيا ستنجح في مهمة القضاء على هذه المجموعات دون الدخول في عملية عسكرية ضدها.. تحريك قوات النظام مجددا باتجاه إدلب رسالة روسية إلى تركيا أن صبر موسكو يكاد ينفد وأن العملية العسكرية ستتم بشكل أو بآخر ومع تركيا أو بدونها للقضاء على قوات النصرة وحلفائها هناك.
- اللقاءات التركية الروسية المكثفة أبعد من أن يكون هدفها التحضير التفصيلي للقاءات أستانة وسوتشي المقبلة وترتيب جدول الأعمال لتفتح الطريق أمام مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي تريده موسكو، التأجيل الدائم في تاريخ المؤتمر يرجع إلى وجود خلافات في العمق حول مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي.. حقيقة أخرى تتقدم هنا الخلاف بين البلدين حول المسألة الكردية في سوريا سيكبر ويتفاقم عاجلا أم آجلا، خصوصا إذا لم ينجحا في تجاوز عقدة التمثيل الكردي في مؤتمر الحوار .
- ثم هناك المصالح التي تتعارض وتتضارب لكل من تركيا وروسيا وإيران في سوريا على المدى البعيد حتى ولو كانت المواقف والطروحات الحالية تلتقي أمام طاولة التنازلات والتسويات.. بوتين يريد أن يمسك بكل شاردة وواردة في سوريا، وأردوغان يردد أن الحل السياسي ينبغي أن يكون مقبولا من الشعب السوري، والرئيس الإيراني حسن روحاني يقول إنه يجب إنهاء التدخل الخارجي في الصراع السوري، وإن الوجود العسكري الخارجي هناك لا يكون مقبولا إلا بدعوة من النظام السوري نفسه..
الواضح أن بوتين يلجأ إلى روحاني نفسه لتمرير بعض الرسائل التي يريد توجيهها إلى تركيا، يبدو أيضا أن بوتين يريد أن يقول إن الحل في سوريا يقتدي أن يقدم الجميع تنازلات لكن لصالح موسكو وحدها.
- إعلان الرئيس الروسي بعد زيارة قاعدة حميميم أنه أعطى أوامره بانسحاب جزئي لقوات بلاده من سوريا ورد وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بأن موسكو تريد نشر انطباع يوحي بالانسحاب من هناك، وأن ذلك ليس صحيحا ولا واقعيا، فروسيا لديها بالأساس قاعدتان في سوريا، فضلا عن انتشار جنودها في مناطق عديدة هناك وهي سبق أن سحبت جنودا من سوريا، لكن مع احتدام الاشتباكات أرسلت جنودا بأعداد أكبر لاحقا، كل هذا يعني أن تركيا غير مقتنعة بأن روسيا تريد فعلا سحب قواتها من هناك وأن المستهدف هنا هو تركيا نفسها لناحية إجبارها على عدم توسيع رقعة عملياتها العسكرية ونقل المزيد من الجنود إلى الداخل السوري والاستعداد لترك قضايا خلافية مثل عفرين ومنبج والرقة إلى مرحلة التسويات السياسية مع أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية.
- بوتين يريد أيضا أن يستخدم أوراقا استراتيجية إقليمية بديلة باتجاه التخلص من التشدد التركي وتصلب أنقرة في مسائل تتعارض مع مصالح بلاده وحساباتها في سوريا، لذلك نراه يقوم بجولة شرق أوسطية خاطفة كانت القاهرة مركز الثقل فيها..
الحديث يدور عن محاولة إقناع دول عربية بالدخول المباشر على خط الأزمة والمساهمة في صناعة التسويات عبر إرسال قوات فصل وحفظ سلام على بعض الجبهات السورية.. هل هذا يعني أن موسكو تتراجع عن تعهداتها السابقة لأنقرة في إطار تفاهمات أستانة والسماح لتركيا بإرسال جيشها في أكتوبر/تشرين أول الماضي لإقامة نقاط مراقبة وتنفيذ اتفاق خفض التصعيد في إدلب؟
- أردوغان يريد أن يقول لبوتين إن أي عملية سياسية في سوريا لن تنجح دون الدعم والمشاركة التركية، لكن بوتين يتمسك بفرض المنطق الروسي في توسيع دائرة المشاركة المحلية والإقليمية أمام طاولة الحوار في عملية التسوية التي تكرس الحل الروسي للأزمة السورية..
أكثر ما يقلق الأتراك اليوم هو أن يقول لهم بوتين ما قاله لواشنطن أكثر من مرة حول دورها وسياستها في الملف السوري "أنتم تتكلمون فقط وبسبب عجزكم عن اتّخاذ القرار تعرقلون التحرّكات الروسية والإقليمية الأخرى"، ما فائدة عشرات اللقاءات التركية الروسية على أعلى المستويات إذا ما كانت موسكو ستطالب أنقرة بعدم عرقلة خارطة الطريق الروسية للتسوية في سوريا؟
تركيا حصلت على ما تريد من عروض روسيّة سياسية اقتصادية استراتيجية في علاقاتهما الثنائية، لكن الملف السوري هو موضوع آخر بالنسبة للكرملين لا يمكن التفريط فيه بمثل هذه السهولة حتى ولو كانت تركيا هي المعنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة