تمثل هذه المعاهدة بامتياز رافعة لدعم الاصطفاف الإقليمي المناهض للتحركات التي تستهدف تمزيق المنطقة.
تعد معاهدة السلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، والمقرر توقيعها رسمياً اليوم في العاصمة الأمريكية واشنطن من المعاهدات التي غيرت مجرى التاريخ، وشكلت الخرائط الاستراتيجية في المنطقة والعالم، فقد اكتسبت هذه المعاهدة أهمية بالغة، نظرًا لأنها جاءت وسط تصاعد التوترات في المنطقة العربية، وتراجع ترتيب القضية الفلسطينية على قائمة أولويات السياسة العربية، وتآكل الرصيد التقليدي للقضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية بعد أن انشغلت هـذه الشعوب بهمومها الوطنية، فقد سعت أبوظبي لإبراز وتوظيف قدراتها الدبلوماسية وأدواتها الناعمة، لحلحلة صراعات الإقليم، وإنعاش الآمال لتأسيس الدولة الفلسطينية، وإرساء أسس سلام دائم وعادل وشامل، وبما يتوافق مع المصالح العربية والفلسطينية. لذلك يخطئ من يظن أن هذه المعاهدة ستكون مجرد اتفاق ثنائي على غرار اتفاقيات عربية سابقة مع إسرائيل تنعكس فقط على واقع ومستقبل العلاقات الثنائية بين الإمارات وإسرائيل، ولكن الأكيد أن هذه المعاهدة ستعيد تشكيل التحالفات والعلاقات الإقليمية والدولية، وسترسم شرق أوسط جديد ومختلف قائم على أسس مغايرة.
فقراءة دقيقة وعميقة للمعاهدة الإماراتية الإسرائيلية، تكشف عن أن الإمارات سعت من أجل أن تكون هذه المعاهدة نقطة استناد حقيقية في التأسيس الجديد والجدي للدولة الفلسطينية، بعد تراجع نفوذ معاهدات واتفاقيات سابقة في إيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية. فقد جاءت المعاهدة معبرة عن حرص الإمارات على توظيف قوتها الناعمة، ودورها الدولي، وتأثيرها في قضايا المنطقة بشكل كبير، من أجل تأمين دعم قوى دولية وإقليمية للقضية الفلسطينية، وممارسة تأثير أوسع على السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، وهو ما ظهر في تجميد قرارات حكومة تل أبيب لخطط كانت مقررة لضم أراض في الضفة الغربية.
المعاهدة ستعيد أيضا صياغة التحالفات في المنطقة، حيث ستمنح الإمارات نفوذاً كبيراً يضاف إلى رصيد نفوذها الحالي وثقلها الإقليمي، وتعزيز الدور المعتبر للدبلوماسية الإماراتية في حل صراعات الإقليم.
كما أن زيادة الوزن السياسي للإمارات في واشنطن ستنعكس على تعزيز فرص الإمارات كقوة دفع لإقناع تيارات فاعلة في الهياكل والكيانات المؤسسية داخل الولايات المتحدة بشأن إقامة الدولة الفلسطينية.
كما تكشف مراجعة المشهد الإقليمي الراهن عن أن قرار الإمارات لا ينفصل عن محاولاتها لاستقطاب قوى دولية وإقليمية، لردع تحركات قوى إقليمية مؤدلجة تراهن على الاستثمار في القضية الفلسطينية لخدمة مصالحها الآنية والضيقة، في الصدارة منها إيران وتركيا، وتجلى ذلك في إعلان مملكة البحرين في 11 سبتمبر الحالي بناء علاقات سياسية مع إسرائيل، وهو الإعلان الذي لقى صدى دولياً وإقليمًيا، برز في تصريحات كوشنر مستشار الرئيس ترامب، والذي قال " هذا تطور سريع جدا، المنطقة تستجيب بشكل إيجابي للغاية للمعاهدة الإماراتية، ونأمل أن تكون علامة على أن المزيد سيأتي. كما أن المعاهدة الإماراتية ومن بعدها البحرينية مع إسرائيل سنؤديان لوضع محركات فاعلة لدعم إقامة الدولة الفلسطينية بشروط تتوافق مع طموحات الفلسطينيين.
لذلك لم تنسق الإمارات إلى السلوكيات الطفولية، والشعارات الشعبوية، والانتقادات المؤدلجة التي وُجهت لها، وكان هدفها الأساسي خلق حقائق على الأرض، وليس الاكتفاء كما يفعل الأخرون بالشعارات، ولعل ذلك كان بارزاً في مردود المعاهدة، فإسرائيل بموجبها "توقفت عن خطة ضم أراض فلسطينية" في الضفة الغربية وغور الأردن، بحسب ما جاء في البيان المشترك بين كلٍّ من الولايات المتحدة ودولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في 13 أغسطس الماضي؛ وبذلك تكون الدبلوماسية الإماراتية قد نجحت في وقف مخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضمّ 30 في المئة من أراضي الضفة الغربية وغور الأردن، وهي الخطوة التي إن حدثت كانت ستُقوِّض حل الدولتين تماماً، وتعوق إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبالتالي فإن المعاهدة لم تحد فقط من الخسائر الفلسطينية، وإنما حافظت على الأرض الفلسطينية التي تعد نواة تأسيس الدولة.
هذه المعاهدة التاريخية، جاءت لتكشف لطبيعة الدور الذي تلعبه دولة الإمارات بقيادتها الحكيمة إقليميا كوسيط مقبول بين الفرقاء لصياغة
نظام إقليمي قائم على التنوع والتعددية واحترام وقبول الآخر والتعايش معه، وترسيخ فكرة الدولة الوطنية، والتسامح والتآخي الإنساني، لذلك تمثل هذه المعاهدة بامتياز رافعة لدعم الاصطفاف الإقليمي المناهض للتحركات التي تستهدف تمزيق المنطقة على مذبح الطائفية والعرقية والأيديولوجية.
في هذا السياق، فإن المعاهدة من جانب عملي تعتبر لحظة تاريخية فارقة، وحدثا مفصليا سوف يكون له تأثيراته المتباينة على الإقليم وعلى العالم برمته، لا سيما وأنها ستعيد صياغة التحالفات الاستراتيجية في المنطقة؛ خصوصاً على مستوى التنسيق الأمني ومكافحة الإرهاب وتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والمبادرات التكنولوجية المشتركة؛ بما يسهم في رخاء وازدهار شعوب المنطقة، يعزز ذلك كون المعاهدة تأتي بالتزامن مع معطيات ومتغيرات إقليمية غير مسبوقة، في الصدارة منها سعى إيران إلى الإمساك بمفاصل الإقليم لبناء مشروعها الطائفي الذي يستهدف تكريس النفوذ الإيراني في دول المنطقة، وبالتوازي مع مخاطر التهديد الإيراني، تتصاعد الأطماع التركية في الإقليم، كما نشهد محاولاتها حاليا في سوريا والعراق والسودان وليبيا، ناهيك عن الاستثمار السياسي في الجماعات الراديكالية في الإقليم كرافعة لتحقيق طموحات أنقرة التوسعية، وهو ما يشكل في نهاية المطاف تهديداً للأمن القومي للدول العربية مجتمعة.
من هنا، فإن المعاهدة بين الإمارات وإسرائيل ستكون مدخلا مهما لإعادة ترتيب التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط وإعادة رسم الأدوار الإقليمية للقوى الفاعلة في المنطقة، بعد أن جاءت المعاهدة لتؤكد حقيقة أن تفاعل الإمارات مع محيطها العربي والإقليمي كان شديدًا عبر كل الأزمنة العصور، حيث اضطلعت الإمارات دائماً بدور مهم في مواجهة التدخلات التي طالما استهدفت أمن واستقرار المنطقة، ناهيك عن أن المعاهدة كشفت حرص الإمارات على تعزيز حضور القضية الفلسطينية التي تقع في القلب من أولويات السياسية الخارجية للدولة.
لذلك لا غرابة عندما نطرح المعاهدة بين الإمارات وإسرائيل كنموذج لإعادة النظر في الإطار الاستراتيجي الذي يحكم العلاقة بين إسرائيل ومحيطها الإقليمي من جهة، ومن جهة ثانية كنموذج لدولة عربية تستثمر قوتها الناعمة وموقعها الجيوسياسي وحضورها الإقليمي، ليس فقط لإثبات وجودها على الخارطة الإقليمية والدولية، بقدر ما تسعى إلى كتابة تاريخ جديدة للمنطقة العربية يدافع عن قضاياها الكبرى، وفي الصدارة منها القضية الفلسطينية.
ولعلها كانت مفارقة لافتة التفاعل الواسع من الرأي العام العربي والعالمي ومنصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العالمية النافذة، هـذا التجاوب الشعبي مع المعاهدة كان تعبيرا عفويا عن التقدير لمن يدافع عن قضايا أمته، ويسعى من دون خطابات شعبوية أو شعارات رنانة لا علاقة لها بالواقع. إذ لا يزال الكثير من العرب والفلسطينيين العقلاء يعولون على الإمارات لاتخاذ خطوات أكثر نحو حلم الدولة الفلسطينية الذي طال انتظاره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة