الخطوة الأولى خطتها الإمارات بشجاعة القادر على النظر إلى المستقبل.
وكانت مبادرة الإمارات هي التي فتحت الطريق أمام أفق لعلاقات اقتصادية واستراتيجية تنبض بالحياة، وتوسّع دائرة الاستقرار.
ولقد كانت خطوة شجاعة من ناحيتين على الأقل. الأولى، القدرة على تخطي العوائق، والنظر إلى ما بعدها. والثانية، "الضرب على الحديد وهو حامٍ"، أي ساعة تكون تلك العوائق قد استهلكت نفسها، وساعة أصبح الضرر من استمرارها واضحا.
تلك الخطوة جاءت في سياق استراتيجي واسع لتصفير المشكلات وإعادة ترتيب أثاث العلاقات الإقليمية على أسس المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى. وهي أسس لا يختلف عليها اثنان، ولا يقفز من فوقها عاقل.
السياق الاستراتيجي الذي وضعته الإمارات لنفسها، أقعد خطوتها تجاه تركيا على أساس شامل، لا يخص تركيا وحدها. وهو ما زاد من قيمتها. وخلع عليها مقدارا كبيرا من الثقة، يُلزم كل طرف حريص على مصالح بلاده بأن يتأمل فيها ويتقبّلها. وهو ما فعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
إرساء العلاقات الثنائية على أساس المصالح، إنما ينأى عن واقع أن هناك مَنْ لا يزال يحرض على الخلاف. بينما ثبت أن المصالح تضرب بجذور راسخة في كل مسعى لبناء علاقات متوازنة تتسم بعقلانية تبادل المنافع، بدلا من تبادل المشكلات، فقد ثبت أيضا أن الاتجاه الآخر ضار بالنفس دائما.
الإمارات وتركيا تعيشان في إقليم يعرف هذين الاتجاهين المتناقضين. وكان من بين أعظم المتغيرات في المنطقة أن تكسب المنطقة قوة إقليمية بحجم تركيا إلى صف البناء وعلاقات المنافع المتبادلة.
هذه المنطقة تعيش في واقع نزاعات متعددة. وهي تثير آلاما وتسبب ضياعا للإمكانيات والفرص، لا يقدر على استدراكها إلا الذين يمتلكون القدرة على النظر إلى المستقبل. بل أن ينظروا إلى موطئ أقدامهم من ذلك المستقبل.
هناك في هذه المنطقة مَنْ يحفر لنفسه حفرة أيديولوجية عميقة، ويعجز عن الخروج منها حتى ولو أعطيته سُلّما. وهو ما يزال يُهيل على نفسه تراب الماضي.
أما المصالح المشتركة، القائمة على أساس الاحترام المتبادل، ما كانت لتتحول إلى ما يبدو وكأنها من العجب العجاب، إلا لأن المنطقة عرفت مَنْ وظف قدراته ليتجاوز على قاعدة بدهية من قواعد العلاقات الدولية.
وقد أوقفت استراتيجية الإمارات العلاقات الإقليمية على قدميها من جديد، لتكتشف ويكتشف كل مَنْ استجاب لعبقرية النظر إلى المستقبل، كم أن بلاده يمكن أن تستقر وتَغنَى وتتجاوز ما قد يعترضها من عثرات، وتشق لحياة مجتمعاتها طريقا أفضل.
الرئيس رجيب طيب أردوغان، رئيس دولة عاقلة في النهاية. و"عاقلة" بالمعنى المؤسسي، وبمعنى نظرة البلاد إلى نفسها، وبمعنى أن مشاغلها الأساسية هي مشاغل مصالح، تزيد أو تنقص، هنا أو هناك، إلا أنها مصالح تتعلق ببناء اقتصاد قوي ومجتمع مستقر.
وهي قوة استراتيجية تستطيع أن تترك بصمة مهمة على الأمن الإقليمي، في مواجهة سياسات زعزعة الاستقرار.
ما يستطيع المرء أن يراه واضحا، هو أن مربع الاستقرار الإقليمي، الذي رسمت الإمارات خطوطه الأولى، صار يتسع ويثبت قدرته على السعي لبناء علاقات إقليمية ودولية تأخذ بالمفيد وتنبذ الضار، تجنح إلى التصالح، وتتخلى عن الخلافات أو تدفعها إلى مرتبة أدنى على الأقل.
الزيارة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، إلى تركيا بدعوة من الرئيس أردوغان في 24 نوفمبر الماضي، لم تقتصر على افتتاح طريق نحو المستقبل، ولكنها أرست أسس السير عليه.
قوتان إقليميتان كبيرتان تمتلكان من القدرات الاقتصادية والاستراتيجية ما يكفي لوضع حجر زاوية راسخ للاستقرار الإقليمي، سرعان ما كشفتا عن ممكنات منظورة وغير منظورة، هي التي أوجبت الأخذ بها والتخلي عن كل ما عداها.
زيارة الرئيس أردوغان إلى الإمارات خطت بهذا المسار خطوة شجاعة أخرى، لكي تضرب موعدا مع المستقبل، ولكي تُرسي أسس الخطوات اللاحقة إليه.
شيء مُعجز يمكن أن ينشأ من علاقات عمل شجاعة. تلك هي عبقرية البدء من المستقبل. ذلك أن قوة مشتركة تبنيها الإمارات وتركيا، يمكنها أن تعني الكثير، ليس حيال المصالح المتبادلة وحدها، ولكن حيال الاستقرار الإقليمي أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة