ظاهِرُ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة يتوازى مع مضامينها العميقة.
خصوصيتها ودلالاتها السياسية والاقتصادية استراتيجية الطابع. بكل المقاييس هي ثمرة للواقعية السياسية، التي تتحلى بها دبلوماسية الدولتين.. القواسم المشتركة بين الجانبين أكثر من أن تُحصى.. سلسلة التغيرات والتحولات، التي شهدتها وتشهدها المنطقة والعالم تتطلب مقاربات حيوية بينهما كقطبين إقليميين استنادا إلى جملة معطيات مشتركة، الدور والمكانة والقدرات الذاتية والقيم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية-الحضارية، التي شكّلت وعاءً حاضناً يستهدي به صناع القرار في صياغة خياراتهم والعمل بهدْيها.
قدمت الإمارات نموذجا لافتاً وجذاباً في الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية والحضارية والإنسانية من خلال سعيها الدؤوب لترسيخ علاقاتها مع المجتمع الدولي والتفاعل معه على قاعدة الاحترام المتبادل وتقاطع المصالح.. اتكأت في خياراتها السيادية إلى استقلالية قراراتها ووضوح نهجها على الأصعدة كافة، ودافعت عنها انطلاقا من رؤاها بعيدة النظر.. انحازت إلى مصالحها المشتركة مع الطرف، الذي يتقاسم معها هذه الرؤى والسياسات.. في هذا الإطار تُقْرَأ زيارة الرئيس التركي إلى الإمارات.
مجالات التعاون والاتفاقيات بين الجانبين التركي والإماراتي تُفصح عن سياقين في مستقبل علاقاتهما:
الأول اقتصادي معنيٌّ بتحويل جميع القطاعات الاقتصادية والتجارية والإنتاجية المشمولة بالاتفاقيات إلى ركائز أساسية لبنية العلاقات الاقتصادية الشاملة، استنادا إلى استراتيجية الدعم التي ترجمتها دولة الإمارات إلى واقع ملموس عبر صندوق الاستثمار، الذي أنشأته في تركيا بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي، ويركز على الاستثمارات الاستراتيجية، وعلى رأسها القطاعات اللوجستية، ومنها الطاقة والصحة والغذاء، وما قدمه وسيقدمه الصندوق لاحقا من عوامل استقرار للاقتصاد التركي وتوسيع لمجالاته الاستثمارية من جانب، وما سيحمله من عوائد على الاقتصاد الإماراتي من جانب آخر، تمهيدا لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة.
أما السياق الثاني، فهو سياسي مستند إلى السياق الأول، ذلك أن تعميق الروابط الاقتصادية وتعزيزها بين البلدين، اللذين يتمتعان بمزايا اقتصادية متقاربة، بأصول ثابتة وتنموية، وعلاقات تجارية واسعة على مستوى المنطقة والعالم، سيشكل رافعة غنية ترفد التفاهمات السياسية بينهما، ويوسع دائرة المشاركة والتأثير وقت معالجة القضايا والملفات، التي تهمهما أو تعني أحداً منهما.
لقد مثّلت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، إلى تركيا في نهاية نوفمبر الماضي "خطوة تاريخية" كما وصفها الرئيس التركي، إذ دشنت مرحلة جديدة من التعاون البنّاء والمتوازن على قاعدة المصالح المشتركة، ووسّعت هوامش الحوار بين الدولتين حول مختلف الملفات والقضايا الثنائية والدولية، وفتحت الآفاق نحو مزيد من العمل والتفاعل بينهما بما يسهم في تعزيز الاستقرارين الإقليمي والدولي.
الإمارات هي الشريك التجاري الأكبر لتركيا من بين دول مجلس التعاون الخليجي.. مجالات التعاون الثنائي لا تقتصر على الطرفين.. ثمة ساحات إقليمية ودولية يمكن أن تنعم بثمار هذا التعاون، انطلاقا من الخصائص الجيوسياسية والإمكانات، التي يتمتع بها كل طرف، ومن التجارب الناجحة للنموذجين الإماراتي والتركي سياسيا واقتصاديا وإنسانيا، بما فيها قضايا المناخ والأمن المائي والغذائي.
ظلت الرؤى الاستراتيجية الإماراتية والتركية عاملاً محفّزا للبناء على القيم المشتركة بينهما، وهيأت تلك الرؤى الظروفَ في معظم المنعطفات لفرصٍ حيوية تم توظيفها لخدمة التقارب.. القناعة لدى الطرفين راسخة بأن التحديات الماثلة على الصُّعُد كافة تحتاج إلى تشاركية وإلى إرادة سياسية مخلصة، وإلى مقاربات دقيقة تساعد على مواجهتها والحد من تداعياتها.
أثبتت السياسة الإماراتية أن ديناميكيتها وحيويتها تقوم على عملية استقراء موضوعي للواقع القائم وللمتغيرات، التي قد تبرز بحكم طبيعة الظروف والعوامل التي أنشأتها.. قراءة التحولات التي شهدتها المنطقة في السنوات العشر الماضية كانت ضمن هذا المنظور الموضوعي لقيادة الإمارات.. برهنت على ثقتها العميقة بنفسها وبخياراتها وبتوجهاتها وبدورها في صياغة شكل جديد من العلاقات الإقليمية مع دولة بحجم تركيا في لحظة زمنية دولية أبسط ما يقال فيها إنها حقبة "اللا يقين السياسي"، إذ ما إن تهدأ جبهة في مكان ما، حتى تستعرَ أخرى على الطرف الآخر.
ملفات وقضايا المنطقة حاضرة على الطاولة بين الجانبين بالتأكيد، كونها مشتركة الاهتمام، فضلا عن آفاق التعاون الاقتصادي بين الجانبين.
زيارة الرئيس التركي تأتي في سياق هذه المعطيات، وفي مقدمتها إدراك تركيا خصوصية الإمارات وأهمية دورها وتأثيرها على قضايا المنطقة وعلى المسرح الدولي، كما تأتي في ظل مناخ خليجي وعربي ودولي مغاير لما كانت عليه الحال خلال العشرية الماضية. جميع السبل مهيأة لنجاح زيارة الرئيس التركي إيمانا بقدرات الإمارات وريادتها، وإدراكاً لأهمية تركيا ولدورها الإقليمي والدولي، فما يجمع البلدين من قواسم مشتركة واهتمامات متبادلة ومصالح ثنائية يؤسس لمرحلة من التعاون والاستقرار والازدهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة