في حالة نادرة من انسجام وتناغم بين تقاليد راسخة على مدى ثلاثة قرون، وبين حداثة تسابق الزمن نحو مستقبل متجدد لا يعرف المستحيل.
وبانتقال الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيّب الله ثراه، إلى جوار ربه، بعد رحلة طويلة من العطاء لشعبه وأمته والإنسانية، تمت عملية انتقال رئاسة دولة الإمارات إلى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
مَن يراقب مشهد جنازة الراحل العظيم ومشهد اختيار الرئيس الجديد للدولة يدرك مدى عمق التناغم والانسجام بين الحفاظ على التقاليد المتوارثة، التي تعتبر نموذجا من الديمقراطية المباشرة، التي يختار فيها الشعب قيادته دون وساطة، وبين حالة التقدم والحداثة، التي تعيشها الدولة في مختلف القطاعات والمجالات.
هذه الحالة من التناغم بين التقاليد والحداثة تنفي الثنائية المتناقضة بينهما، وتعطي الأمل أنه بالإمكان أن نعيش أرقى ما في العصر، وأن نحافظ على هويتنا العربية الإسلامية دون أن يكون هناك صراع بين العصرنة والتقاليد، أو بين الحداثة والهوية والذات الحضارية.
هذه القدرة على الجمع بين الثنائيات، والمزاوجة بين المتعارضات، والتناغم والانسجام بين الضدين، هي في جوهرها أهم خصائص وقدرات القيادة الجديدة لدولة الإمارات، وهي أيضا أهم متطلبات اللحظة التاريخية، التي يعيشها العالم اليوم، بعد المواجهة بين روسيا والغرب، وبعد أن دخل النظام العالمي في مرحلة إعادة تشكُّل تحتاج إلى نوع من القيادة قادر على أن يبحر بسفينة دولته في أمواج العالم المضطرب، وأن يكون لديه وضوح في الرؤية، ودقة في تحديد الوجهة، وأن تكون البوصلة في يده، لا في يد غيره.. وكل هذا متوافر في شخصية القائد محمد بن زايد آل نهيان.
فقيادة الإمارات الجديدة تملك هذه القدرات النادرة، ومن يتابع تحركاتها الفترة الماضية في العديد من الملفات العسكرية، حين نجحت في تنويع مصادر التسلح، وأخرجت الدولة من المصدر الواحد إلى المصادر المتعددة، المتناقضة في مواقفها السياسية، ولكن تم جمع المتناقضات على أرضية المصلحة الوطنية الواضحة بمهارة وخبرة فائقين.
كذلك من يتابع التحركات السياسية في ملفات عربية كثيرة منذ اندلاع ما سُمي "الربيع العربي" كسوريا واليمن وليبيا والسودان، يدرك أن الحنكة السياسية لرئيس دولة الإمارات الجديد قد مكّنته من أن يفكك معظم الملفات المستعصية لخدمة الأمن القومي العربي وإقليم الشرق الأوسط.
النظام العالمي القادم سيكون هو المشهد نفسه، الذي تعامل معه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في العالم العربي والشرق الأوسط في الفترة الأخيرة، حيث تتحرك الإمارات بنهجها الحكيم والمستقل بين أطراف متناقضة ربما، دون انحياز لأجندة غير أجندة إماراتية خالصة، هو تحرك من موقع الاستقلالية للحفاظ على المصلحة الوطنية وتحقيقها وتعظيم مستهدفاتها.
المرحلة التاريخية القادمة على مستوى النظام الدولي لن تكون كما كانت منذ أشهر عدة، قبل اندلاع الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، سيكون العالم في طور تشكيل نظام دولي جديد، وتوازنات دولية جديدة، ومن استطاع أن يحجز مكانه فيه سيحقق مصالح وطنه ودولته، ومن غاب عنه فلن يكون فاعلا فيه.
قيادة الإمارات الجديدة متمرسة بمهارة فائقة في التعامل مع هذا المشهد لعالم يتغير، وقادرة على توظيفه لخدمة وطنها، ولعل الاتصالات والاجتماعات، التي تمت خلال الشهور الماضية مع القيادات الصينية والروسية والغربية تؤكد أنه قد كانت هناك رؤية استباقية لما سيحدث على الساحة العالمية، واستعداد واضح ورصين له، وتحضير متميز لتجنب آثاره السلبية، بل وتوظيفها بشكل إيجابي.
إن أقدار الله في الكون دقيقة دقة متناهية، والتحولات التي تحدث في المجتمعات والدول، وفي حياة الأشخاص، محسوبة في خطة كونية دقيقة وضعها الخالق سبحانه، ولا نملك أمامها إلا التفكر والتأمل للفهم العميق والتصرف الحكيم.
رحم الله الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، صاحب الإنجازات العظيمة، التي أحدثت نقلة أسطورية في حياة المواطنين الإماراتيين، ووفّق الله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لقيادة دولة الإمارات نحو مرحلة جديدة من التمكين والازدهار والسلام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة