على الرغم من التراشق الإعلامي الذي شهدناه منذ بداية العام بين الولايات المتحدة وإيران فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، فإن المصلحة اقتضت في نهاية المطاف اللجوء للمفاوضات عبر الوسيط العماني.
الحقيقة التي يتفق عليها الجميع هي أن واشنطن ترغب في التوصل لحل مع طهران، وذلك للحد من نسبة تخصيبها لليورانيوم في برنامجها النووي، ومنعها من عسكرته وإيصاله لمرحلة تصنيع القنبلة النووية. ولعل السؤال الأبرز الذي لابد من إجابته هو؛ لماذا اقتضت المصلحة الأمريكية-الإيرانية إلى المضي قُدمًا في المحادثات بهذا التوقيت تحديدًا؟ وما هو المستقبل المنتظر من هذه اللقاءات مع التصريحات السابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قال فيها بأن الملف الإيراني لابد أن يُحل "بشهرين"؟
إن الرجوع لتاريخ التعامل الأمريكي مع البرنامج النووي الإيراني يُعد مهمًا لفهم التحولات التي شهدها، ففي الولايات الرئاسية السابقة؛ تم اتباع أنماط عديدة في التعامل مع هذا الملف. ففي حين توصل أوباما لاتفاق نووي مع طهران في عام 2015 سُمي "بخطة العمل الشاملة"، جاء ترامب في ولايته الأولى لينسحب منه، وطبّق عقوبات اقتصادية سُميت "بالعقوبات القصوى" وذلك للتوصل لاتفاق جديد. تلاه بايدن الذي لجأ للحل الدبلوماسي، إلا أنه في نهاية المطاف لم يتوصل لأي اتفاق. ومع مجيء ترامب بولايته الثانية، بدأ بتهديداته، ولوّح بالخيار العسكري، ناهيك عن تحجيمه لوكلاء إيران عبر إسرائيل، وأخيرًا ذهب لطاولة المفاوضات "غير المباشرة إلى الآن" عبر عُمان للتوصل لاتفاق نووي جديد.
ومع هذا السرد المتسلسل والمختصر، ما يمكن استنباطه هو أن تغيير المقاربات في التعامل مع طهران بفترات مختلفة يبدو أنها كانت الخيار الأمثل من وجهة نظر البيت الأبيض لتحقيق المصلحة الأمريكية. وبالفعل يبدو أن الجهود الأمريكية بدأت تظفر بثمارها، فالتغير الواضح في الخطاب الإيراني خير دليل على أن إيران أصبحت "شبه منهكة" من المقاربة الأمريكية "غير المستقرة". وبناء عليه وجدنا التصريحات الإيرانية خفيفة الحدة خصوصًا من المرشد الإيراني.
إن صناع القرار الإيرانيون أصبح جليًا في مدركاتهم أنه لا فائدة من التعنت مع شخصية مثل ترامب، وتجربتهم معه في السابق خير دليل على ذلك؛ خصوصًا بعد أن هَوى باقتصادهم في نهاية ولايته الأولى، ووصلت خسائرهم ما يقارب ال270 مليار دولار. ومع تراجع الحضور الإيراني في سوريا، والضعف الذي يشهده حزب الله بلبنان، والاستقرار الذي تعيشه العراق، والضربات المتتالية التي يتلقاها الحوثيون، يبدو أن طهران ستقدّم تنازلات في مفاوضاتها مع واشنطن، خاصة وأن مسألة تهديداتها الإقليمية عبر وكلائها قد لا تكون في جدول المفاوضات بحكم تلاشيها على أرض الواقع، والتصريحات الإيرانية فيما يخصه ما هو إلا بروباغندا موجهة لمؤيديها.
الأهم في هذا كله هو المقاربة الاقتصادية الحالية لإدارة ترامب التي ترمي لإعادة ضبط الأسواق العالمية بما يتماشى مع المصالح الأمريكية. فعودة طهران لتصدير النفط "الرسمي والقانوني" من شأنه أن يساهم في زيادة المعروض في الأسواق العالمية، وهو ما سيؤدي إلى استمرار تراجع أسعار النفط بشكل أكبر مع موجة الارتباك الحاصلة من التعرفات الجمركية "الضبابية" التي فرضتها أمريكا على أكثر من 100 دولة ومنطقة وعُلقَت (ليوليو المقبل). ومع انقضاء فترة تعليق هذه التعرفات، وفي حال توصل طهران وواشنطن لاتفاق في غضون شهرين (أي لشهر يوليو)، فمن شأن ذلك أن ينعكس بشكل إيجابي على الأسواق المستهلكة للنفط، وبنفس الوقت الأسواق المصدرة ستكون الطرف المتضرر بهذه المعادلة.
وفي نهاية المطاف، فعلى الرغم من النظرة التفاؤلية لهذه المفاوضات من المجتمع الدولي، فإن العاملين اللذين سيُشكلان خارطة طريق واضحة لنجاحها هما تعامل إيران مع الصين بعد عودتها لأسواق النفط ورفع العقوبات عنها، وموقفها تجاه التصعيد ضد إسرائيل، ولو أن هذين العاملين لن يكونا في البنود المعلنة للجميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة