في مثل فصل الربيع هذا عام 1968، بدأت في جامعة هوارد الأمريكية أول احتجاجات الطلاب الجامعيين الواسعة، وكانت حينها ضد سياسات التمييز العنصري ضد الأمريكيين السود والمنعكسة في البرامج التعليمية لهذه الجامعة وغيرها من الجامعات الأمريكية.
وبعد أسابيع قليلة، شهدت جامعة كولومبيا الشهيرة بنيويورك، أولى شرارات الاحتجاجات الطلابية الكبرى على تورط الولايات المتحدة في حربها على فيتنام، وانخراط الجامعة في مشروعات عمرانية تقوم على سياسات التمييز العنصري ضد السود، التي كانت سبب اندلاع أول الاحتجاجات الطلابية قبلها بشهر واحد. وبعد هذا توالت الاحتجاجات الطلابية في عدد آخر من الجامعات الأمريكية، وركزت بشكل مباشر على رفض التورط العسكري الأمريكي في فيتنام.
ولم تمر سوى فترة قصيرة للغاية، حتى انتقلت عدوى احتجاج طلاب الجامعات إلى أوروبا، خصوصاً إلى فرنسا. ففي مايو/أيار من نفس العام (1968)، بدأت الاحتجاجات الطلابية في جامعة السوربون الأقدم والأشهر والأكبر في البلاد، رفضاً للاستغلال الرأسمالي، والقيم الاستهلاكية، والتوجهات الحكومية المعادية للطبقات الشعبية والعمالية، مطالبة بمزيد من الحريات العامة والخاصة التي اتهموا نظام الرئيس شارل ديغول بقمعها.
وسرعان ما توسعت الاحتجاجات لتمتد إلى أرجاء المجتمع الفرنسي كله، وتحولت إلى مظاهرات وإضرابات واعتصامات خصوصاً من الطبقة العاملة، لتمتد الاضطرابات إلى فرنسا كلها لقرابة شهرين كاملين، توقفت خلالهما الحياة تقريباً في البلاد. ومنذ ما بات يطلق عليه في فرنسا "ثورة الطلاب"، ظلت أحداث 1968 تحتل موقعاً مركزياً في التطور السياسي الفرنسي الداخلي، تمتد آثاره على الثقافة السياسية ومجريات العمل العام حتى اليوم.
وبالعودة للاحتجاجات الطلابية بالولايات المتحدة منذ نشأتها المشار إليها وحتى اليوم، يبدو واضحاً أن التطورات الداخلية الأمريكية كانت دافعها الأول، بالإضافة للحدث الأكبر في التاريخ الأمريكي المعاصر وهو الحرب في فيتنام التي تورطت فيها واشنطن لنحو عشر سنوات. وقد شهدت بعض الجامعات الأمريكية احتجاجات قليلة محدودة بسبب بعض القضايا غير الأمريكية، وكان من بينها الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
من هنا، فما يحدث اليوم في عدد كبير من الجامعات الأمريكية بمختلف الولايات، الذي بدأ ببعض من أكبر وأبرز الجامعات على المستوى الأمريكي والعالمي، يبدو جديداً للغاية. فالتأييد الأمريكي العسكري والدبلوماسي الواسع للحرب الإسرائيلية الدموية على غزة، والمآسي الإنسانية الهائلة التي أسفرت عنها، والغياب التام لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، كان هذه المرة الدافع المعلن للاحتجاجات الطلابية الأمريكية، وكان رفض كل هذا هو الهدف الذي أخرج كل هؤلاء الطلاب ليحتجوا ويعتصموا داخل جامعاتهم.
ومن الواضح من التطورات شديدة السرعة للاحتجاجات الطلابية الأمريكية، أنها تتوسع بصورة غير متوقعة وتزداد وتيرتها يومياً، وذلك بفعل عديد من العوامل، يأتي في مقدمتها مواصلة العدوان الإسرائيلي على غزة وتفاقم خسائره البشرية والمادية الفادحة.
كذلك، فإن المواجهة الأمنية التي سلكتها بعض إدارات الجامعات لهذه الاحتجاجات، مع اتهام القائمين بها من بعض السياسيين والمسؤولين الأمريكيين بأنهم "معادون للسامية" لمجرد نقدهم لإسرائيل، على الرغم من انخراط عديد من اليهود الأمريكيين بينهم. وما زاد الاحتجاجات أيضاً اتساعاً، كانت الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي قارن بينها وبين مظاهرات الطلاب "النازيين" في الجامعات الألمانية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، واصفاً إياهم بأنهم "غوغاء معادون للسامية"، مطالباً رؤساء هذه الجامعات ببذل مزيد من الجهد الضروري لإدانة الاحتجاجات وإيقافها.
وبدون مبالغة أو تزيد، فعلى الأرجح أن الاتساع السريع للغاية للاحتجاجات الطلابية، ومواصلة العدوان الإسرائيلي والدعم الكامل الأمريكي له، مع ردود الفعل السياسية والإدارية الأمريكية تجاهها التي تتسم بدرجة عالية من "الحمق"، والتزايد المتوقع لردود الأفعال المستفزة للطلاب الأمريكيين الصادرة من مسؤولين إسرائيليين، من المرجح في ظل كل هذا أن تتسع هذه الاحتجاجات داخل الجامعات، بما قد يدفع بها إلى قطاعات في المجتمع الأمريكي، وهو ما يمكن في عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أن يصل بها بطريقة ما وبصورة مختلفة إلى جوهر ما وصلت إليه احتجاجات الطلاب الفرنسيين في مايو/أيار 1968.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة