لماذا يتجه العرب نحو إعادة قراءة التاريخ العثماني؟
تثير فترة الحكم العثماني للعالم العربي جدلا واسعا، كانت له تداعياته على مسار العلاقات العربية التركية الحديثة.
مر على موقعة مرج دابق أكثر من ٥٠٠ عام، حيث جرت المعركة على بعد عشرات الكيلومترات فقط من مدينة جرابلس السورية التي يسيطر عليها الجيش التركي بعد توغل عسكري في أغسطس 2016.
انتصر العثمانيون على المماليك في تلك المعركة بقيادة السلطان قنصوة الغوري ليبدأوا بعدها التوجه ناحية الشام ومصر ودول الشمال الأفريقي، ويحكموا المنطقة لعدة قرون حتى انهارت الخلافة العثمانية في العام 1923.
تثير فترة الحكم العثماني للعالم العربي جدلاً واسعاً، كانت له تداعياته على مسار العلاقات العربية التركية الحديثة، ورغم قرب مرور مائة عام على نهاية حكم الدولة العثمانية، فإنّ الجدل يهدأ ويعود بشأن تلك المعضلة التاريخية المتعلقة بالحكم العثماني للعالم العربي، والتي استمرت لنحو أربعة قرون.
فبينما يقتنع البعض بإرث دولة الخلافة، وتاريخها الناصع، وبخاصة تيارات الإسلام السياسي، فإن عددا من الدول العربية تعتبرها العامل الأساسي لحالة التراجع والانحطاط التي شهدتها المنطقة، وما زالت.
وتصاعد مجدداً الجدل حول إشكالية الحكم العثماني للمنطقة هذه المرة على خلفية تصريحات الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي وصف في سبتمبر الجاري الحكم العثماني لبلاده بالاحتلال.
وهم إعادة إحياء العثمانية
تتصاعد حملة في العالم العربي لكشف الآثار السلبية التي أنتجها العهد العثماني في العالم العربي، وزاد زخم هذه الحملة مع محاولات إحياء مظاهر الدولة العثمانية في ثوب جديد، محاولا صبغها بصبغة دينية في كثير من الأحيان، وهو ما يمكن إيضاحه من خلال مؤشرات عدة، يمكن بيانها فيما يلي:
خطاب عثماني متعصب:
كشفت خطابات الرئيس أردوغان العصبية الحادة في الآونة الأخيرة وسياساته تجاه دول المنطقة، عن توجهاته العثمانية ومحاولاته إحياء إرث الدولة العثمانية عن طريق، وما يرتبط به من عمليات تفكيك وإعادة هيكلة الهوية التركية، وتبنى مظاهر وتجليات الإرث العثماني وسياسات الهيمنة والتوسع الإقليمي لإعادة إنتاج ما يسميه بعض الأكاديميين "عهد الاستعمار العثماني" في منطقة الشرق الأوسط.
كما يعتبر أردوغان أن العالم العربي يعد امتداداً للتواجد التاريخي العثماني في المنطقة في الماضي.
إحياء التراث العثماني:
تعيد تركيا إحياء التراث التاريخي، والمعماري للدولة العثمانية، عبر افتتاح عدد من التكايا، والثكنات العسكرية العثمانية في تركيا وخارجها.
كما اعتمدت تركيا رسمياً تدريس اللغة العثمانية في المدارس، وفي ديسمبر 2014، اعتبر أردوغان هذه الخطوة ركيزة أساسية في حماية هوية الدولة إلى قيام الساعة.
كما وفرت الحكومة التركية مخصصات مالية غير مسبوقة لإنتاج المسلسلات، والأفلام التاريخية التي تستعرض أحداث الزمن العثماني.
وكانت الخطوة الأكثر جرأة في هذا السياق، تبني حكومة العدالة والتنمية، مشروع لتوثيق الأرشيف العثماني "الطابو".
وتنبع أهمية هذا المشروع من كون الأرشيف يحتوي على آلاف الوثائق والأوراق الممهورة بشعار الإمبراطورية، وتؤكد الحقوق التاريخية لتركيا في كركوك، والموصل، وحلب، واليونان، وغيرها من المقاطعات التي كان يحكمها العثمانيون.
نزاعات الاستعمار:
يعتبر أردوغان أن على تركيا مسؤولية تاريخية تعطيها الحق في التدخل في شؤون دول الإقليم، وبناء على هذا يمكن فهم تصريحات أردوغان في 7 ديسمبر 2018، عشية زيارة أولى من نوعها لليونان لرئيس تركي منذ 65 عاماً، عندما قال "إن بعض تفاصيل معاهدة لوزان التي رسمت حدود تركيا مع جيرانها ليست واضحة".
وأضاف أن "لوزان اقتطعت من أملاك الخلافة العثمانية لمصلحة الغير".
كما يعتبر أردوغان أن تدخله في شؤون الدول العربية، ونشر قوات عسكرية في العراق، وسوريا، وآخرها عملية "غصن الزيتون" التي انطلقت في 20 يناير 2018 في الشمال السوري، تأتي من اعتبارات المسئولية التاريخية لتركيا.
الاستدعاء التركي لفكرة حق التدخل في شؤون دول كانت في حيازة الإمبراطورية العثمانية، بدا حاضراً أيضا، وبقوة في حديث الرئيس أردوغان، عشية إحياء الذكرى الـ78 لوفاة مصطفى كمال أتاتورك في 10 نوفمبر 2016 عندما قال "نتصدى للذين يحاولون تحديد تاريخ دولتنا وأمتنا بـ90 عاماً".
وأضاف أردوغان: "لا يمكننا أن نسجن في 780 ألف كيلو متر مربع. حدودنا الطبيعية شيء، وحدودنا العاطفية شيء آخر تماما. إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل يمكن أن يكونوا خارج حدودنا الطبيعية، لكنهم ضمن حدودنا العاطفية".
المراسم السياسية الرسمية:
تعتبر أحد أدوات تغذية الحنين للعثمانية، وظهر هذا التوجه في أكثر من مناسبة، ففي يناير 2015، وبعد افتتاح القصر الجديد في أنقرة، ظهر الرئيس التركي عشية استقباله محمود عباس أبومازن، ومن قبله رئيس أذربيجان "إلهام علييف"، ووراءه صفوف من الجنود يرتدون الخوذات والدروع العثمانية، ويمسكون الرماح ، ويحملون أعلام 16 دولة أسسها العثمانيون.
إجراءات تصويبية
تتعالى اليوم أصوات قطاعات واسعة داخل العالم العربي تدعو لإعادة النظر في التاريخ العثماني، وإعادة كتابته، وكشف مساوئه، وتمثلت أهم الأصوات فيما يلي:
وصف العصر العثماني بالاستعمار:
في 5 سبتمبر الجاري، وعشية الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس لبنان، نشر الرئيس اللبناني ميشال عون سلسلة تغريدات عبر حسابه الشخصي على تويتر، تطرق فيها إلى محطات في تاريخ بلاده.
ووصف عون في إحدى تغريداته ممارسات الدولة العثمانية بـ"الإرهابية" واتهمها بـ "إذكاء الفتن الطائفية وقتل مئات الآلاف من اللبنانيين، خصوصا خلال الحرب العالمية الأولى".
وتواصلت ردود الفعل السلبية تجاه العصر العثماني في لبنان، عندما قامت مجموعة، في 6 سبتمبر الجاري، بوضع لافتة على بوابة السفارة التركية مصحوبة بصورة جمجمة مغطاة بالدماء، وعبارة: "أنتم أيضا ألزموا حدودكم".
والأرجح أن قطاعا معتبرا من المؤرخين يرى أن العثمانيين فرضوا عزلة على العالم العربي، وجعلوه أسير التقليد والجمود، وكانوا السبب الأول في تراجع المكانة الحضارية للعرب.
ويرى البعض أن الحملة الفرنسية التي جاءت على مصر ومن بعدها الشام عام 1798 كانت بمثابة صدمة حضارية للعرب الذين استفاقوا على واقع التخلف والجهل الذي يعيشون فيه.
تغيير المناهج الدراسية:
اتجهت بعض الدول العربية إلى تقديم صورة مغايرة عن التاريخ العثماني في مناهجها الدراسية، ففي القاهرة على سبيل المثال حولت كتب التاريخ التي عُدلت في عام 2010 ثم في عام 2014 "الفتح" إلى "غزو"، حيث تصف كتب التاريخ الجديدة، الحكم العثماني، الذي بدأ عام 1517 واستمر ثلاثة قرون، بأنه كان جامدا راكدا وأغرق مصر والعالم العربي في التخلف.
وتؤكد المناهج المستحدثة أن العثمانيين لجأوا إلى الدين واستخدموه لاستمرار فرض سيطرتهم على العالم العربي".
تغيير أسماء شوارع تاريخية:
لجأت بعض الدول العربية إلى تغيير أسماء شوارع كانت تحمل أسماء شخصيات عثمانية، فعلى سبيل المثال قررت السلطات المصرية تغيير اسم شارع السلطان العثماني سليم الأول، غربي القاهرة.
وترى نخب الحكم في مصر ومؤرخون أن السلطان التركي هو أول مستعمر لمصر، وأنه أفقدها استقلالها وحولها لمجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية إلى جانب قيامه بقتل آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها، وإعدامه لآخر سلطان مملوكي (طومان باى)، وحل الجيش المصري.
رفض الحضور التركي:
في الوقت الذي تسعى أنقرة إلى تحقيق اختراق للمجتمعات العربي، فثمة قطاعات شعبية وسياسية تناهض الحضور التركي باعتباره وريث سجل إمبراطوري غير مشرف. فعلى سبيل المثال، وعشية زيارة أردوغان للجزائر في مارس 2018، تصاعد الجدل حول الدور المشبوه للعثمانيين في الجزائر.
ومع كل تقارب مع تركيا يستدعى الجزائريين الماضي التاريخي الذي امتد من 1516 حتى الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830.
في هذه الفترة فرض الأتراك تقسيما اجتماعيا تمييزيا، حيث يأتي في أعلى هرم السلم الاجتماعي فئة العثمانيين الأتراك، ثم يليهم الكراغلة (المولدون في الجزائر من الزواج بين الأتراك والجزائريين) ثم باقي السكان بما فيهم المسيحيين واليهود.
إجمالا يمكن القول إن ثمة نظرة متباينة في العالم العربي للتاريخ العثماني، فبينما يصف البعض دخول العثمانيين البلاد العربية، بالغزو يطلق البعض لقب فتح، غير أن قطاع أوسع في العالم العربي، وبفعل الانخراط التركي السلبي في أزمات الإقليم يدعو إلى إعادة قراءة التاريخ العثماني، وكشف النقاب عن دوره في عزلة العالم العربي وتراجعه.