محللون: تكريم ماكرون لـ"خونة ثورة الجزائر" ورقة ضغط وحسابات فرنسية
ماكرون يصدر مرسوما يقضي بتكريم 25 حركيا جزائريا، بالتزامن مع سحب الحماية الأمنية من البعثات الدبلوماسية في الجزائر وباريس.
لازال المد والجزر يطبع العلاقات الجزائرية الفرنسية بسبب ملفات الذاكرة، بخاصة ما تعلق منها برياح ملف خونة ثورة الجزائر، المعروفين باسم "الحركى" الذي يعتبر من أكثر الملفات الحساسة للطرف الجزائري والمزعجة للفرنسيين بحسب المراقبين.
- الجزائر تخفض الحماية على سفارة فرنسا ردا على قرار مماثل
- الجزائر وفرنسا.. سجال على وقع خونة ثورة التحرير
وفي الوقت الذي تحدثت فيه أوساط سياسية وإعلامية فرنسية عن فتور في العلاقات بين الجزائر وباريس، أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجمعة، مرسوما رئاسيا، نشر في الجريدة الرسمية، منح بموجبه امتيازات استثنائية للحركي المقيمين في فرنسا، منذ استقلال الجزائر عام 1962.
وبحسب وسائل الإعلام الفرنسية، فقد تضمن قرار ماكرون منح أعلى رتبة تكريم في فرنسا لـ 6 حركي ومؤسسة وجمعية تابعة لهم بدرجة "جوقة الشرف برتبة فارس"، وترفيع 4 حركي آخرين إلى درجة الاستحقاق الوطني برتبة ضابط، 15 آخرين إلى رتبة فراس.
قرار الرئيس الفرنسي الذي يأتي قبل ما يُعرَف "باليوم الوطني للحركى" في 25 سبتمبر/أيلول المقبل، وهو العيد الذي أقرته فرنسا بعد استقلال الجزائر؛ اعترافا بما قدمه خونة الثورة الجزائرية الذين حاربوا مع الاستعمار الفرنسي من 1954 إلى 1962.
وبعد نيل الجزائر استقلالها في الـ5 من يوليو 1962، قرر عدد كبير من "الحركى" الفرار مع جنود الجيش الفرنسي والمعمرين الفرنسيين والأوروبيين، إذ تقدر الدراسات التاريخية عددهم بنحو 60 ألفا باحتساب عائلاتهم، وتحولوا مع مرور السنوات إلى "جالية كبيرة في فرنسا" قدرها الإعلام الفرنسي بحوالي "نصف مليون".
في حين تشير دراسات وشهادات تاريخية في البلدين إلى أن فرنسا تخلت عن 55 إلى 75 ألفا، وتركتهم في الجزائر، منهم من تمت تصفيته من قبل الأهالي، ومنهم من غيَّر اسمه ومكان إقامته خشية تعرضه للقتل أو السجن.
ملف شائك في فرنسا وغير قابل للتفاوض في الجزائر
ماكرون، ومنذ دخوله قصر الأليزيه في مايو/أيار 2017، أعاد فتح ملف الحركى المعروفين أيضا في الجزائر بأسماء "القايد، القومي، الزواف"، وبات من الملفات التي تحاول باريس مساومة الجزائر فيها بحسب كثير من المراقبين، خاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، جون إيف لودريان، في يوليو الماضي، عندما قال إن "الحكومة الفرنسية تحس بالضيق الذي يشعر به قدماء الحركى وعائلاتهم الذين غادروا الأرض التي ولدوا فيها والتي لا يعودون إليها حتى في الرحلة الأخيرة من حياتهم".
- محللون عن فتح فرنسا ملف تعذيب ثوار الجزائر: مناورة وخطوة متأخرة
- جدل حول اعتراف ماكرون باستخدام فرنسا التعذيب إبان استعمارها للجزائر
موقف سارعت الجزائر إلى رفضه، واعتبرت أن ملف الحركى "غير قابل للنقاش"، ورفضت فكرة دفنهم في الجزائر، وهو ما اعتبره متابعون للعلاقات بين البلدين رسالة واضحة لماكرون قبل زيارته المرتقبة إلى الجزائر، ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وتواجه السلطات الفرنسية في السنوات الأخيرة معضلة جديدة تتعلق بمطالب رفعها الحركى لمنحهم تعويضات عما يقولون "إنها أضرار تعرضوا لها بعد استقلال الجزائر"، وطالبوا أيضا برد الاعتبار لهم.
وهددت جمعيات الحركى في فرنسا، مطلع الشهر الحالي، برفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية ضد الحكومة الفرنسية، وهدد عدد من الحركى في المقابل "بتقديم شهادات تؤكد قيام الاستعمار الفرنسي بجرائم ضد الإنسانية في الجزائر".
غير أن قرار الرئيس الفرنسي الأخير تزامن مع أزمة دبلوماسية مفاجئة وصامتة، بحسب الأوساط السياسية في البلدين، وتزامن مع قرار مفاجئ اتخذته باريس، مطلع الأسبوع الحالي، سحبت بموجبه الحماية الأمنية عن السفارة الجزائرية بباريس دون أن تبلغ السلطات الجزائرية بذلك.
وقررت الجزائر من منطلق مبدأ المعاملة بالمثل، بسحت الحماية الأمنية الاستثنائية عن السفارة الفرنسية بالعاصمة الجزائرية وكافة قنصلياتها في محافظتي عنابة ووهران.
غير أن المراقبين اختلفوا في تحديد خلفيات وأهداف قرار الرئيس الفرنسي، ما بين اعتباره حملة انتخابية مسبقة لماكرون، وبين من اعتبرها مناورة فرنسية جديدة للضغط على الجزائر لإعادتهم إليها، أو لحسابات داخلية فرنسية تتعلق بتخفيف الضغط عن ماكرون بعد قرار الاعتراف بقتل المناضل موريس أودان، إبان الثورة التحريرية.
كما جاءت الخطوة الفرنسية بعد أيام فقط بعد الاعتراف الرسمي الأول من نوعه بتعذيب وقتل مناضل الحزب الشيوعي الجزائري، موريس أودان، إضافة إلى الاعتراف بأن الحكومة الفرنسية (في عهد الاحتلال الفرنسي للجزائر) "شرعت التعذيب كوسيلة لتنطيق وقتل المناضلين ومجاهدي الثورة التحريرية الجزائرية"، وقدم ماكرون اعتذار بلاده لزوجة أودان عن قتل زوجها.
ورقة ضغط لحسابات اقتصادية وملف الاعتذار
يرى المحلل السياسي، الدكتور محمد سي بشير، في اتصال مع "العين الإخبارية" أن هناك قراءتين لقرار ماكرون، الأول "سياسي، بحكم الشد والجذب في العلاقات بين البلدين، كنا منذ فترة قصيرة أمام قرار إيجابي في اعتراف باريس بقتل موريس أودان، وقرار سلبي يتعلق بتكريم الحركى، وهي عبارة عن رسائل خفية تتبادلها الجزائر وباريس فيما بينها".
- منتجات الصين تثير أزمة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي
- ميركل في الجزائر.. وخبيران لـ"العين الإخبارية": زيارة غير عادية
القراءة الثانية، بحسب الدكتور سي بشير، اقتصادية، وقال "إن فرنسا أصبحت تراقب تقهقرها في السوق الجزائرية لحساب الصين وألمانيا وأصبح ذلك يثير قلق صناع القرار في باريس التي تراجعت مكانتها، في مقابل توجه جزائري لفتح ملفين مع فرنسا، وهما ملف الذاكرة وملف اتفاق الشراكة".
وأضاف "أن فرنسا والجزائر تستخدمان الكثير من الأوراق في علاقاتهما، وفرنسا تحاول استخدام بعضها للضغط على الجزائر، سواء الإيجابية أو السلبية، من بينها ملف الحركى في المفاوضات المتعلقة بالملف الشائك المتعلق بالذاكرة".
لكن المحلل السياسي لم يستبعد في المقابل أن يكون قرار ماكرون بتكريم خونة الثورة الجزائرية له علاقة بحسابات انتخابية داخلية، ومع ذلك فإن "الملفات المرتبطة بالذاكرة تضغط بشكل أو بآخر على العلاقات بين الجزائر وباريس".
حملة انتخابية مسبقة لماكرون
المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، الدكتور عبد العالي رزاقي، استبعد أن يكون القرار الفرنسي موجها ضد الجزائر، وقال في حديث مع "العين الإخبارية" "القرار متعلق بالعهدة الثانية التي يحضر لها ماكرون، ولا أكثر من ذلك، والهدف الأساسي هو استقطاب أصوات الحركى".
- ماكرون وملف الذاكرة الجزائرية الفرنسية.. الاعتراف المبتور
- ماكرون يختتم زيارته إلى الجزائر بالاتفاق على تسليم الجماجم
ويرى رزاقي "أن أصوات الحركى قد تذهب إلى اليمين المتطرف، إذا لم يتم التكفل بمطالبها والاعتراف بوجودها ودعمها، ولا علاقة للقرار بالسحب المتبادل للحماية الأمنية من البعثات الدبلوماسية في البلدين، والفرنسيون يفكرون في مصلحتهم فقط، ولهذا أرى أنه لا علاقة للقرار بمساومة الجزائر، وماكرون يرى بأن هذه الفئة يمكن له الاستفادة منها كثيرا في الرئاسيات القادمة، والقرار عبارة عن مصلحة داخلية فرنسية تخص ماكرون".
وعن علاقة الجزائر بالقرار، قال المحلل السياسي "يمكن لماكرون أن يفاوض الجزائر حتى تسمح لهم بالدخول، في حال قدم تنازلات في هذا الملف، واعتقد أن رفض الجزائر هو كلام إعلامي، والمسؤولون الفرنسيون زاروا الجزائر أكثر من مرة، لكن المشكلة ليست في القرار الرسمي الجزائري، بل في الموقف الشعبي عندما يلتقي حركي في الشارع، فلا يمكن التحكم حينها في ردة فعل الجزائريين".
تداعيات خطرة للقرار
المؤرخ والباحث الدكتور عامر رخيلة أعطى قراءات مغايرة لقرار الرئيس الفرنسي بتكريم خونة الثورة الجزائرية، وفي تصريح لـ"العين الإخبارية"، معتبرا أن "المشكل الذي يتخوف منه كثيرون هو التداعيات التي قد تترتب عن هذا القرار في مستقبل العلاقات بين البلدين".
- وثيقة مسربة: فرنسا نفذت اغتيالات فردية إبان احتلالها للجزائر
- "نريد جماجمنا".. طلب رسمي من الجزائر لفرنسا
ورأى بأن القرار كان منتظرا، مستدلا على ذلك "بأن ملف الذاكرة والحركى له تأثير قوي على العلاقات بين البلدين وأيضا على الحسابات الانتخابية الداخلية في فرنسا، إضافة إلى تواجد الكثير من أبناء الحركى الجزائريين في دواليب السلطة الفرنسية وفي الاقتصاد".
وأضاف "القرار تزامن مع اعتراف باريس باغتيال المناضل موريس أودان، وإزالة الحماية عن السفارة الجزائرية، مع رد فعل جزائري سريع في إطار المعاملة بالمثل، وفرنسا تدرك جيدا أن ملف تكريم الحركى يزعج الجزائريين؛ لأن الرأي العام الجزائري يراهم خونة، وورقة الحركى ليست الجزائر من توظفها بل فرنسا".
واعتبر أن "القرار الفرنسي الأخير ستكون له تداعيات خطرة في المستقبل، لأن فرنسا ستطرح مسألة ممتلكات الحركى في الجزائر، وحقوق المواطنة في الجزائر وفتح ملف تنقلهم إلى الجزائر، بصفتهم مواطنين جزائريين لكن بجنسية فرنسية وفق النظرة الفرنسية، ومن المؤكد أن باريس ستتخذ إجراءات ومراسيم أخرى تعزز مرسوم اليوم".
وأضاف قائلاً "تزامن تكريم الحركى مع اعتراف فرنسا باغتيال وتعذيب موريس أودان يؤكد شيئا آخر، وهو أن ماكرون يحاول توظيف كل الأوراق سواء التي ترضي اليمين واليمين المتطرف أو التي تستقطب اليسار، كما أن اليمين المتطرف يعتبر تواجد الحركى في فرنسا بأنهم جسم غريب في المجتمع الفرنسي، وهو ما يفرض ضغوطا على قصر الإليزيه يحاول إيجاد حلول لها".
ومع كل ذلك، توقع المؤرخ والباحث الجزائري أن "لا يؤثر المرسوم الفرنسي على العلاقات بين البلدين فيما يتعلق بملف الذاكرة، خاصة في ظل غياب الإرادة السياسية الجزائرية في التعامل الند بالند في هذا الملف، والمصالح المشتركة أقوى بكثير من أن تتأثر بمرسوم، ولا توجد إرادة سياسية صلبة في الجزائر فيما يخص ملف الذاكرة، والقوى الكثيرة الموجودة داخل المجتمع الجزائري من منظمات ثورية ليست فاعلة للأسف، وتحركها يخضع لأوامر فوقية، والجزائر رغم أنها تربط تحرك العلاقات مع فرنسا بملف الذاكرة إلا أنها لم تتخذ خطوات إيجابية باتجاه تأطير وتنظيم المطالب، ويجب الإشارة إلى أن الرأي السياسي الرسمي في الجزائر غير ذلك الرأي الذي نجده عند الرأي العام".
وختم الدكتور عامر رخيلة بالقول إن "المنظمات الرسمية وغير الرسمية في الجزائر تعتبر أن ملف الحركى فرنسي محض، لكن يجب الانتباه لتداعيات هذا المرسوم لأن باريس ستتجه لتبني مطالب الحركى في الجزائر، ولو عاد بعض الدمويين من الحركى الذين ارتكبوا جرائم بحق الجزائريين خلال الاستعمار الفرنسي؛ فإنني أتوقع أنهم سيدفعون أرواحهم ثمنا لتلك العودة، لأن عائلات الضحايا لازالت موجودة، وهذا يبرر رفض الجزائر فكرة عودة الحركى".